الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
تكوم مشلولا حول جهاز "ترانزستور" يتابع منه، من أمام بيته المتواضع، الذي كان قبلة القوميين، في بلاده النائية، النائمة على شاطئ المحيط الأطلسي، خطاب قائد راهن عليه وعلى بلده الكبير في تحقيق حلم العرب في النصر، والوحدة، وتحرير فلسطين! وفي لحظة من لحظات الفاجعة، كان لعبارة " قررت أن أتنحى" التي أعلنها الرئيس وقع الصاعقة في نفسه كما في نفوس عشرات ملايين العرب. شعر أن كبده قد تفطرت، وأن قلبه قد اجتث من صدره..
ألقى الجهاز من يده، وصاح بكل ما أوتي من قوة الشباب: لا لا لا! وانهار يبكي بحرقة أمام جمع يرى صرح آماله ومستقبل أهله ينهار هباء تذروه الرياح ويتلاشى كالسراب! ذعرت زهرته ذات الربيعين والنصف فألقت بنفسها منتحبة بين ذراعيه فأزاحها عن حضنه الذي لم يعد ملاذا زاخرا بدفء الأمة الذي كان يغمره! كم هي قاسية وموحشة، تلك الأوقات التي لا يجد فيها الرجال في أيديهم سوى البكاء! وما أعظم أولئك الذين يَثبُتون، ويُثبِتون في الدواهي أنهم أقوى من الهزيمة!
تذكر قول البارودي:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ** ولم يبق في كفي إلا التندما
وفي لمح البصر، أنقذ الشعب العربي في مصر وفي الوطن العربي الموقف، فزحف في كل مكان إلى هذا الميدان، وكل ميدان، يحمي مصر المستباحة العزلاء، وثورتها الضائعة، ورمزها المغدور، ويعلن "لا" مدوية للعالم!
وفجأة صارت بلاده القاصية المنسية النائمة في حضن المحيط جزءا ساخنا من الجبهة! فحاصر البداة العزل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في نواكشوط حتى تم جلاؤها وغلب "اليعقوبيون" أمريكا، فقطعت العلاقات الدبلوماسية بين بلاده وبين أمريكا وبريطانيا، وتم إخراج الدبلوماسيين الأمريكيين صاغرين من موريتانيا في ظرف ثمان وأربعين ساعة.. وهب الموريتانيون في حملة جمع تبرعات آتت أكلا يفوق التوقع؛ وانطلق الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله- يحدو إفريقيا، قطرا بعد قطر، حتى قطعت جميع علاقاتها مع "إسرائيل" يحتضنها اليوم أبناؤه وأحفاده، كما يحتضن الهشيم النار!(*)
وصدحت حناجر الشعراء وألسنة وأقلام المفكرين والكتاب تحْدوا الأمة وتستشرف النصر وتصنع الفجر!
وفي أعماق الريف الموريتاني - بادية كيفة- غنت المرحومة امّانه بنت ابيسيف من كلماته نشيد:
كَرّو يا النساء ألطفال ** يحيـا للعروبه جمــال
لعْربْ مرّه كانْ انكصرو ** واحتــلّ لعْداءْ القنال
يَسْوَ، مَزَالُ يَنْتَصْـــرو ** وابيدُ قـوة الاحتــلال.
وانتقل الرئيس جمال عبد الناصر إلى رحمة الله قبل أن يعيش لذة النصر الذي نسج خيوطه وخلق شروطه. ولكن النصر تحقق في أكتوبر سنة 73. ولم يحتفل - هو الآخر- بنصر أكتوبر الذي طالما حلم به واستشفه في رحم الغيب، وذلك لسببين؛
أولهما: أنه كان يومها يعيش مختبئا تحت الأرض مطاردا من نظام بلاده.
وثانيهما - وهو الأهم:- ما شاب ذلك النصر من شوائب كانت آخرتها توظيف تضحيات ملايين الأحرار في صلح كارثي منفرد رديء سخّر مصر العظيمة وارتهنها لأعدائها الأمريكيين والإسرائيليين.
_______________
* هكذا كان الأمر وقتها؛ وقد قطعت تلك العلاقة منذ أكثر من 10 سنوات لله الحمد.
من مقال "قصتي مع مصر"