في حدود عام 1956 ولد في منطقة علب آدرس شرقي مقاطعة أبي تلميت الشاعر الكبير محمد الحافظ بن أحمدو لأسرتين كريمتين جمعتا المجد من جميع أطرافه علما وأدبا وكرما...، فأبوه هو الأديب الحكيم أحمدو بن المصطفى بن الشيخ محمد أحمد بن محمذن بن محمد عبد الرحمن الملقب لعبيد الحلي التندغي، وأمه ابنة عم أبيه السيدة مريم بنت محمد الحافظ بن محمد بن معاوية رحم الله الجميع.
بعد حفظه المبكر للقرآن الكريم وهو في سن الثامنة أو التاسعة يمم وجهه شطر المحاظر فنهل من معين كبريات محاظر قومه في علب آدرس وضواحيه، فأخذ عن جلة من أعلامها مثل: العلامة القاضي محمدن بن محمذن فال بن أحمدو فال (1892 - 1979)، والعلامة الشيخ محمد عبد الودود بن الرباني (1894 - 1981)، والقاضي الجليل محمد يحي بن محمد الدنبجه (1909- 1979)، والعلامة الأستاذ الدنبجه بن معاوية (1918 - 1997)، لذلك لم يكن محمد الحافظ مجرد شاعر أو أديب بل كان فوق ذلك لغويا بارعا وفقيها متمكنا ومحدثا حافظا، تميز بتواضع العلماء وكبرياء الشعراء وطرافة الأدباء وإخبات المتصوفة وبساطة طلاب العلم..
بعد دراساته المحظرية المعمقة دخل محمد الحافظ معهد أبي تلميت الذي كان يومها أشبه ما يكون بمحظرة نظامية جامعة، فاستمع فيه إلى محاضرات نخبة من كبار العلماء من أمثال العلامة المحدث محمد بن أبي مدين الديماني (1914 - 1976)، والعلامة محمد يحي (حي) بن عدود المباركي(ت. 2006)، والأستاذ أحمد بن مولود بن داداه الإنتشائي الأبييري، قبل أن يشد الرحال إلى المشرق ليتنقل بين جامعات ومكتبات العراق والسعودية ومصر..
للشاعر محمد الحافظ مؤلفات ودواوين شعرية عديدة نذكر منها:
- المحكمات عراها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ديوان شعر
- عودة الهديل، ديوان شعر، حائز على جائزة شنقيط.
- ديوان العرب، ديوان شعر
- صناجة العرب، ديوان شعر
- في رحاب الأدب، مجموعة مقالات...
هذا فضلا عن بعض الدراسات والرسائل الجامعية التي تناولت حياته وشعره، مثل:
- البعد القومي في شعر محمد الحافظ بن أحمدو، للبتول بنت الشيخ محمد أحمد
- الصورة الشعرية في شعر محمد الحافظ بن أحمدو، للشاعر سيدي ولد الامجاد...
يعتبر محمد الحافظ بحق رائدا لما يمكن أن نطلق عليه اسم المدرسة الحداثية المحافظة، حيث تنصهر مفاهيم الحداثة ومضامينها مع أشكال الأصالة وقوالبها في ثنائية بديعة من الإبهار والإمتاع تساعده في ذلك إحاطة نادرة بكنوز وأسرار اللغة العربية وفهم عميق للتراث الإسلامي واطلاع واسع على الآداب العالمية وملكة إبداعية فائقة وحس نقدي ثاقب.
مثّل محمد الحافظ بلاده في تظاهرات ومهرجانات أدبية كثيرة أبرزها مهرجان المربد بالعراق، وقد أبهر الشاعر بملكته الشعرية الفذة ونفسه الطويل وثقافته الأصيلة الواسعة وقدرته العجيبة على الإمتاع والإقناع مع سرعة بديهة مذهلة وطرافة نادرة تأخذ بمجامع العقول والألباب كل من التقوا به أو حاوروه أو استمعوا إليه أو قرأوا عنه.
لا أنسى تواضعه الجم وخفضه الجناح لأمثالي من المراهقين ممن لا يَلتفت إليهم عادة من هم في مكانته وفرادته وتميزه وعلو كعبه في شتى فنون المعرفة، أذكر من ذلك مداعباته الشعرية لي وحثه إياي على الأخذ بأسباب العلم والتأسي بالسلف الصالح من الوالدين والأعمام والأخوال، كان يشجعني دائما ويطلب مني أن أسمعه بعض شعري وكنت أستحي أن أفعل لأسباب عديدة منها بكل تأكيد الإحساس بتواضع البضاعة بشكل عام و ضحالة التجربة الشعرية بشكل خاص أمام ذلك الطود الشامخ ومع ذلك فأذكر أنني عرضت عليه مرة محاولتين ونحن في مجلس بمنزل الوالد محمد عبد الرحمن الرباني رحمه الله قرب قيادة الحرس في نواكشوط فقال لي مجاملا ومشجعا لقد تأثرت في الأولى بالشاعر عمر أبي ريشة وفي الثانية بالشاعر نزار قباني.
ومن عجائب ارتجاله التي كنت شاهدا عليها ما حدث مرة - ونحن في بيت لأهل أحمد يوره وكان ملاصقا لبيت أسرة الشاعر في أبي تلميت - من إنشائه ارتجالا لقصيدتين في وقت واحد مختلفتين في البحر والقافية ولا أذكر شيئا عن غرضهما وإن كنت أرجح أنهما غزليتان، كان يملي عليّ البيت من إحدى القصيدتين وفي انتظار أن أنهي الكتابة كان يملي القصيدة الأخرى على زميلي محمد الآمين (امّيّن)محمد الشيخ. وسمعت من فِيه بعد ذلك أن سفير دولة الكويت أراد مرة أن يتحقق بنفسه من قدرته على ارتجال الشعر، وكان قد سمع عنه، فلوح له بصورة في مجلة قائلا: هذه صورة فنانة هندية اسمها إماملين، فأنشدني فيها الآن شعرا ولك أن تتمنى علي بعد ذلك ما شئت، فأنشده الشاعر في الحين:
إيماملين يا إدهاش عقلي*** وإيماني بمن خلق الجمالا
أيعبد قومك الأبقار جهلا *** ولو عبدوك قد كان احتمالا
وحاشَ الله لم أشرك بربي*** وما فلبي عن التوحيد مالا
ولكن إن يكن وَثَنٌ فأولى*** بحسنك أن يكون لهم ضلالا
وكانت أمنيته بعد ذلك تناسب شخصية الشاعر الزاهد إلا في الأدب، فطلب ديواني بدر شاكر السياب ونزار قباني.
المواقف الطريفة في حياة الشاعر محمد الحافظ كثيرة، يقول في إحدى مقابلاته أنه
أنشد مرة بحضرة دكتور شامي مشهور، قصيدة مطلعها:
كسوت نهديك من سحر النسا إتبا *** فإن عتبت فإني أرفض العتبا
فقال له الدكتور بحزم: و الله.. القصيدة جيدة لولا الكلمة الفرنسية التي في مطلعها، (يقصد إتبا) فرد عليه الشاعر: صحيح ! و لكن مما يسهل الخطب أنها من فرنسية امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذر فوق الإتب منــها لأثرا.
ويقول في مقابلة أخرى: كتب أحدهم مرة مقالة عني بعنوان "هذه اللغة القاموسية لا مبرر لها"، فكتبت في الرد عليه: "اللغة قاموسية كلها إلا المبرر"، لأن كلمة المبرر ليست من كلام العرب.
الشاعر محمد الحافظ صاحب إنتاج غزير وتتميز قصائده في الغالب بالطول، بل إن بعضها يعد بالمئات، ومن أشهر قصائده قصيدة " في حانة ابن الفارض الصورية" التي يقول فيها:
هل باب خدرك للعشاق مفتـــــــوحُ؟
يا ربة الخدر كم تهفو لك الــــرُّوحُ
يا معرج الروح في مرقى قداستها
إذ هيكل الأرض إحسان وتسريـح
من كُمِّ حـــورية تغفو بحجلـــــتها
لها من سنى الخُلد التــــــــــلاويح
من سكرة الورد من نور الضحى غردا
بما به شكر الغيثَ الأباطيـــــــــح
من نفح شبابة الراعي مساء ندى
غمامه فوق بسط الأفق مطـروح
من رغوة القمر الفضي راغيــة
لها على شعر الواحات تسريــح
يُبرعم الضوء من بلور سندسه
هذي الرؤى فالهوى طعن وتذبيـح
من هذه المزق الأنفاق من قــــزح
وشّى الفضــاء به المزن الدواليح
أنتِ التي ان تهادت في مسـيرتها
يسرى بمخشوشب الأجسام تلقيح
الحب روح مطل من نوافذهــــــا
عن أنفس الناس بالتقديس ترويــح
اخصوصبت من أديم الأرض سنبلة
واخضل من رمة البهمى الصحاصيح
وعاودت سيرها الأنهار جاريـــــــة
منها إلى جنـــة الخلد المطــــــاريح
يا ربـة الخدر ما خمر بعاتقـــــــــة
إن لم تناد: بما أكننتمُ بوحـــــــــــوا
حبابها من ثنايا الصبح بسمتـــــه
وتحته الغسق الوردي مذبــــــــوح
ما عاقرتها من الأرواح مرعنــــة
إلا ومنها خبيئ النفس مفضـــــوح
ولا تلامسها أقلام شارحِـهــــــــا
إلا وأغربها شرح وتوضيـــــــح
يا لمسة الساحر الموهوب هل قدرٌ
على المحبين أن تغلي الجوانيح ؟
يا ربة الخدر هل وعد فيأملـــــه
مَن جفنًه بأليم الهجر مقـــــروح
لفح السموم سياط الحب تجلده
وما على عاشق في الحدِّ تدليح
...
ومن روائع شعره قصيدته "بطاقــة دعـــوة إلى أبي حيــان التوحيـدي"، والتي منها:
أقبل على الرحب، عِمْ يا شاحطَ الدارِ
مُدمدماً فوق ريحٍ ذاتِ إعصـــــــــارِ
إني أحسك هفهـــــــــافا على رئتي
بردا من الثلج , أو لفحا من الــنار
اقرأ بربك ما دونت مـن سُـــــــدُم
تطفو على الشمس عصرا بعد أعصار
اقرأ كتابك للدنيا فإن بــــــــــــــه
تململ القهر في عينيْ سِنمّــــــــار
إني أحسك كابوسا يطــــــــوِّقني
كبسمة الغول إن حنَّت إلى الثـــــار
يا تائه اللُّبِّ في دنيا محجبــــــة
يا شارد العقل في مشتط أفكــــــار
اثقب من العالم السفلي جلدتـــه
واصعد إلى العالم العلـوي يا زاري
فَكِّك مركّبة التكوين ثاويـــــــــةً
منها السواري على أوتاد فخّــــــار
مزَّقتَ سِفْرَك فلتنشئه ثانيـــــــة
واسكب تعاشـــيب جنات وأنهــــار
واعصر من الخلد كرما قرقفا غدِقا
كناشئ الحلم أو تهويم أزهـــــــــار
مزمارك الشمس كالنشوى مطوحة
في مَــدْرج اللاتناهي عبرَ أسفـــار
وجوقُك الجن والأطباقُ طائـــــــرة
تجاذب الشمس مزمارا بمزمــــــار
مخلدا بشنوف الوهم ممتطيــــــــا
طرفاً من الليل مثل الكوكب الساري
أقراطك الأمل المشبوب راقصــــةٌ
منه العذارى, وقد غنت لسمّـــــــار
وفكرك الشامخ الجبار منتصــــبٌ
ملْء الحياتين لم يركع لجبــــــــــار
إني تناسختُ في عينيكَ ثانيــــــة
سعيا على جُرُف من حظك الهـــاري
يدعونني القطب بهو الشمس دائرتي
وقبلها كنت أُدعى سارق النـــار
إني أوشــــــح بالحِنَّا حقولــــــــهمُ
وأودق الفجر وكَّافاً بأمـطــــــــــار
وأمسك الماء والنيران ذان مـــعًا
وأعصر الخمر من نار وأنــــــــوار
تطلسمتْ فيك رؤيا الأولياء فمــــا
تُفضي بأســـرارها إلاّ بمقـــــــــدار
تذوي القناديل في عينيك شاحبة
كيْــــما تنير ضريــــــح النازح الدار
لولا أغاني حُشاشات الوجود وقد
دبتْ بهـــــن حُميَّا خمرة العـــــــار
كشفنها من إزار الشمس من حُبُكٍ
من السموات ذات القَرْقف الجاري
إذن لأطعمتُ نار الحـــقد ما كتبتْ
يدي (ونَطّيْتُ) للفيران كالفـــــار
والَوْعة الحبر قد خيطت جوانحه
على دماميل من كبت وإنكــــار!
...
ومن قصائده التي حازت شهرة كبيرة قصيدة عودة الهديل التي كتبها وفي وسط سبعينيات القرن الماضي، يقول في أحد مقاطعها:
...
فزعت عن قلبي الجريح، متى اهتديت؟
طال الغياب فشخت بعــــــدك بل ذويت
لم لا أرى أثر القـــــــــــــــرون عليك آ
هٍ، أكنت تبح في الخلود، متى رسوت ؟
من أي وهم حالم نسجت غـــــــــلا
ئلك التي خلبت فــــــــؤادي فانتشيت ؟
أقصص علي عجائب الدنيا وحـــــــــدِّ
ثْ عن تميم الدار فيمن قــــــــــد لقيت
وقلوب عذرة كيف مزقها الجـــوى
وهواجر الصحراء والنعم الســـــوام
والسندبــــــــاد وعالم البحر المهو
ل وكيف ينجو المبحرون من الهوام
أو ما يزال النون مهموما ؟ أيز
درد الغواني والنبيئين الكـــرام
...
وخلاصة القول أن الشاعر الكبير محمد الحافظ أحمدو ظاهرة أدبية وعلمية فريدة تتطلب دراستها عمقا ووقتا وجهدا في مستوى عطاء ونبوغ هذه الظاهرة، ويستحق صاحبها أن يُنزل منزلته اللائقة به، إحقاقا للحق أولا، ولمصلحة الوطن والأمة ثانيا، وتكريما للعلم وأهله ثالثا.. وحتى لا نكون ممن يصدُق عليهم الأثر السائر: "أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه"..