لعل أقدم صورة حية وصلتنا عن نقد الشعر صورة النابغة جالسا في قبة من أدم في سوق عكاظ ينقد أشعار الأعشى وحسان والخنساء.
وأحدث صورة رأيناها صورة الدكتور علي بن تميم ورفاقه في مسابقة "أمير الشعراء" ينقدون شعرا لشاب ليبي اسمه عبد السلام أبو حجر. وبين الصورتين والعهدين والمقامين، مفاوز ودلالات وأشجان.
فقد أنشد حسان النابغةَ:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى .. وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
ولدنا بني العنقاء وابنيْ مُحرّق .. فأكرمْ بنا خالا، وأكرمْ بنا ابنَما!
فقال النابغة: "إنك لشاعر لولا أنك فخرتَ بمن ولدتَ، ولم تفخر بمن ولدك. وقلتَ: الجفنات، فقلّلتَ العدد؛ ولو قلتَ الجفان، لكان أكثر. وقلت ’يلمعن بالضحى‘، ولو قلت ’يبرقن بالدجى‘ لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا".
أما الدكتور علي، فأنشده الشاعر الليبي:
ويعجبني في الذكرياتِ سخاؤُها .. إذا شحت الأوقات في الذهن تُغدِقُ
فتصدى له الدكتور، قائلا إن السخاء منصوبة. ثم جاءت المستورة التي عن يمينه بآبدةٍ قائلةً إنها مجرورة. وبعد ثوان كانت شبكات التواصل الاجتماعي تئن أنينا بالتعليقات الناقدة للجنة. فعلق الدكتور المحترم بأن الأمر متعمد، فالهدف إنما كان اختبار أعصاب الشاعر، ومدى ثقته من كلامه. ولم يحفل أحد بهذا العذر الضاحك، ولا نسِي أحدٌ تعليق صاحبة الآبدة التي كانت جالسة عن يمينه.
أما أنا فلم يفاجئني الأمر
فقد أتاح لي عملي وتطوافي في هذا العالم الاقترابَ من الرؤوس الثقافية، ومجاثاةَ الركب مع الدكاترة المتصدرين للمشهد الثقافي. فتولدت لدي قناعة أن أغلبهم أدعياء. فسنوات التجريف المعرفي -التي عرفتها بلداننا تحت نير الاستبداد- صنعت عالَما شائها. فقد أخبرني أحد الأحبة أن ابنته جاءته العامَ الماضي منزعجة من أستاذة اللغة العربية في المتوسطة. كانت الأستاذة تقرأ نصا فوردتْ فيه عبارة "فنزلوا وضربوا خيامهم في الوادي". وشرحت الأستاذة "ضربوا خيامهم" بكونهم أخذوا عِصيّا وضربوا بها الخيام. وعندما نبهتْ إحدى الطالباتِ الأستاذةَ على الخطأ لم تقبله. وأصرت أن ضرب الخيام يعني أخذ العصي وضربَها بالعصا.
وللقارئ أن يتخيل مصير جيل من الطلاب يجلسون آلاف الساعات على مقاعد الدراسة منصتين لأمثال هؤلاء. إنهم يدمرون قرائحهم اللغوية، ويلوُونها ليّا. ولعل هؤلاء الأطفال لو جلسوا في المنازل يتحدثون مع أجدادهم وينصتون لتسجيلات سليمة من الإذاعات أو اليوتيوب لكانت لغتهم أفضل، وفهمهم أدق، وفِطرهم أسلم.
عدت للمقطع وشاهدته مرتين. وتأملت وجوه المتحدثين وألقابَهم ووثُوقيتهم، فتذكرت واقعة للعلامة محمد الأمين الشنقيطي (صاحب أضواء البيان). فقد سأله طالب في السنة الرابعة من الجامعة عن تعريف دقيق لـ"شهادة الزور". فقال له بديهةً: "هي الورقة التي سيعطونكم بعد أشهر بأنكم مختصون في الشريعة والعربية". ولعمري إن المال والشهادات والمكانةَ الاجتماعية جنتْ على الأدب واللغة والعلم أيما جناية.
واللافت أنه عندما انتشر المقطعُ، وعلق عليه الناس، خرج الدكتور الفاضل وكتب على حسابه الرسمي واصفا التعليق على الواقعة بأنها "حملة تأتي ضمن مساعي جماعة الإخوان الإرهابية، وأذرعها مثل الجزيرة وعربي 21، والخليج الجديد، لإثارة الفتنة ونشر الكراهية".
ولعل القارئ يتساءل هل الحديث في أمر الفاعل والمفعول به حديث في الكراهية، أو يقود للفتنة؟ ولعل حديث الدكتور الفاضل عن "الإخوان" في سياق خطأ لغوي يدل على حالته الذهنية مع الإخوان أكثر من دلالاته على أمر آخر. فالانشغال النفسي بهذه الجماعة يتحول أحيانا إلى حالة مرضية. وقد ذكرني استدعاؤه للإخوان في هذا السياق بقصة رواها بديع الزمان عن رجل كان "أقرع، ولم يكن أحد يجسر أن يذكر بحضرته القرع، ولا القرعة، ولا تقارع الأقران، ولا الأقرع بن حابس، ولا بني قريع، ولا يقرأ سورة القارعة". فما دخل الإخوان والجزيرة في تعليق الناس على أن الفاعل غير المفعول؟
ولعل من مكر اللغة أن يكون موضوع الحديث "سخاء الذكريات". ولعمري إن مجلس النابغة ونقده لذكرى سخية أيما سخاء، إذا قورنتْ باللحظة الأدبية المادريّة التي نعيش. هذا مع تقديري لفكرة البرنامج، ومحوريته في رفع همم الشباب، واهتمامه بالفصحى. غير أنه ينبغي البحث عن محكمين يستحقون أن يكونوا كذلك.
مع التحية للدكتور، وللمستورة.. صاحبة الآبدة.