الأخت الباحثة الكريمة النجاح بنت محمذن فال. اطلعت على تعليق لك على تدوينة للصحفي في التلفزيون الموريتاني سيدي محمد ولد الإمام حول رائعة الشاعر أحمد عبد القادر "السفين"، و ألمحت إلى علاقتها بأحداث 89~ 1990م ولأنني كنت شاهد عيان على ميلاد القصيدة وما أثارته بعد نشرها أود أن أسجل بعض الحقائق حولها للتاريخ:
أولا: إن لم أكن -شخصيا- أول من اطلع على هذه القصيدة فأنا من أوائل من اطلعوا عليها إذ أطلعني عليها مبدعها وهي لا تزال مخطوطة. وكان ذلك على ما أذكر في أواسط شهر مارس 1984م. وقد علقت عليها بأنها منعطف نوعي في تجربته الشعرية، وهو منعطف مهدت له قصيدة "الغول" التي كتبها الشاعر قبل ذلك بأشهر في بدايات مايو 1983.
ثانيا: قام الأستاذ الأديب أحمد سالم ولد التاه بترجمة القصيدة إلى الفرنسية، ونشرتها جريدة الشعب باللغتين العربية فالفرنسية. وأتذكر هنا تحمس رئيس تحرير الشعب حينها الصحفي المميز أحمد ولد المصطفى لنشرها، وكذلك الصحفي النشط الشريف ولد بون.
ثالثا: عند نشر القصيدة أثارت نقاشا بين النخبة الأدبية الموريتانية باللغتين العربية والفرنسية وكان ذلك أول نقاش نقدي جاد حول نص شعري موريتاني حديث على الإطلاق.
ومن أبرز من شارك في هذا النقاش الأساتذة: محمدو الناجي ولد محمل أحمد، ايسلمو ولد بيه، هيبتنا ولد سيدي هيبه، ومحمد عبد الله ولد محمد المصطفى، ود. محمد ولد عبد الحي.. وغيرهم عديد.
رابعا: انصب النقاش على فنيات القصيدة من جهة باعتبارها حدثا أدبيا ملفتا. ثم باعتبار مضمونها؛ إما حديثا إيكولوجيا بيئويا بلغة أدبية راقية وخيال شعري خصب؛ وإما قصيدة رمزية سياسية بامتياز، موغلة في الرمزية والتشاؤم للبلد والتخرص على نظامه القائم.
خامسا: ترتب على القصيدة مالم يترتب على غيرها من النصوص الأدبية حيث زارت شرطة أمن الدولة منزل الشاعر لاعتقاله، وكنت حاضرا لزيارتهم، لكن الشاعر كان حينها في زيارة للعراق بدعوة من الشهيد صدام حسين.
سادسا: استمر النقاش حول السفين عدة أشهر ولم يتوقف حتى بعد سقوط حكومة ولد هيدالة التي سقطت بعد تسعة أشهر ونيف من كتابة السفين.. وأرى أنه إن لم تكن هذه القصيدة أحد أسباب سقوط نظام محمد خونا ولد هيدالة عمليا فقد كانت من أسباب سقوطه فكريا وأدبيا ومعنويا بالتأكيد، حيث مهدت عقول وأذواق النخبة السياسية بمختلف مشاربها، و المتلقين الموريتانيين عموما للحفاوة العفوية بانقلاب معاوية بالمظاهرات العارمة المؤيدة.. وتلك هي خطورة الأدب والفكر.
كما لعبت هذه القصيدة دورا مؤسسا في تحريك الأقلام النقدية الموريتانية بصورة غير مسبوقة. مما جعل من "السفين" نصا مؤسسا للتقاليد النقدية اللاحقة في موريتانيا. ولايزال هذا النص يتردد كالصدى العميق في التجربة الوجودية للإنسان الموريتاني الذي ينتهج الرحيل المادي والمعنوي مذهبا مقدسا لممارسة وجوده ودغدغة وجدانه.
ومنويبقى نص السفين حيا متوقدا إلى أن يخبو هاجس الرحيل في نفس الإنسان الموريتاني.. بل وبعد ذلك لأن الإبداع لايخبو.
سابعا: لعل ما ذكرته أستاذتنا النجاح يتعلق بقصيدة "نداء الماء" للشاعر أحمد ولد عبد القادر التي أبدعها بعد ذلك خلال مأساة الأحداث بين السينغال وموريتانيا، وكانت دعوة للثقة في النفس من جهة، كما هي دعوة للسلام والإخاء بين الشعبين فقد ختمها الشاعر بالحكمة الجليلة:
"والطير كل الطير أجمله الحمام".
تحياتي لك أستاذتنا الباحثة النجاح.
د. محمد ولد أحظانا