د.محمد الحسن مصطفى
أستاذ الأدب بجامعة نواكشوط
انتهيت من قراءة أولية مشوقة لرواية(فتنة الربض) للكاتب الروائي الكبير محمد ولد محمد سالم صاحب مجموعة من الروايات التي رسمت منحى خاصا في مسار الرواية الموريتانية القصير زمنيا الخصب إنتاجا وإبداعا، منها (ذاكرة الرمل) و(دروب عبد البركة ) ، ورائعته (دحان ) و(أشياء من عالم قديم) والأخيرة تنتمي للرواية القصيرة أوالقصة الطويلة.
ويعد محمد ولد محمد سالم أحد أبرز الروائيين من جيل ما بعد تأسيس الكتابة الروائية في موريتانيا، وهو الجيل الذي ترسخت معه تقاليد هذا النوع الأدبي الذي يعتبره باختين النوع الأدبي الأحدث والوحيد الذي لم يبلغ طور الاكتمال، ويعني هذا ان التراكمات الروائية في مختلف أنحاء العالم وعبر السنين معنية بالمساهمة في تشكيل الصورة المستقرة " النهائية" لهذا النوع الأدبي الأبرز خلال المائة سنة الأخيرة .
وتنتمي الرواية الجديدة لمحمد ولد محمد سالم إلى نمط من الإبداع الروائي النادر الذي يقفز داخل المراحل التاريخية ملتقطا لحظة درامية فاصلة يقدمها في ثوب تراثي غرائبي محكم النسج والحبك سردا، ووصفا ، ولغة، عبر حوار فكري وثقافي متعدد الاصوات والدلالات.
تقدم الرواية في مستوى البنية السطحية فتنة الربط في عهد أمير الأندلس الحكم الأول بن هشام الشهير بالحكم الربضي نسبة الى المجزرة التى أوقعها بثوار أرباض قرطبة واشترك فيها كثير من فقهاء الأندلس، وتجارها،وعمالها، ومسحوقيها.
ولئن نجح هذا الحاكم في صد هذه الهبة الشعبية التى جاءت ردا على ظلم عماله وأغلبهم من الصقالبة المستجلبين من أوربا وآسيا الوسطى فإن مخلفات تلك النكبة قد انعكست على البلاد في الأندلس سنوات وعقودا ، فقد كرست سلطة الأمويين بالأندلس ردحا مديدا من الزمن .
ولم يكن العهد الاموي بالأندلس على هذا النحو دائما فنحن نعرف أن عصر عبد الرحمن الناصر الطويل اللاحق على هذه الحقية السوداوية كان عصر ازدهار ثقافي وعلمي ورخاء اقتصادي، وسيطرة عسكرية في مواجهة الممالك الأوربية الشمالية.
والرواية رغم تصويرها لهذه الفترة المضطربة فإنها تنصف الأميرالحكم ايضا في بعض العناصر الإيجابية كتقدير العلماء، واحترام القضاء، والحرص على الدفاع عن الدولة وان كانت تلح على ماتميز به عماله من إرهاق الناس بالجباية تحت عناوين مختلفة على نحو أثقل كواهل الرعية وأثر على معاشهم وسير حياتهم .
وتزدحم الرواية بالأشخاص المختلفى الرؤى والتوجهات والمرجعيات من علماء وقضاة ووزراء وقواد ، وكان لهم دورهم الملحوظ في الرواية، و عمال خراج ومحصلين ونخاسين، ومواطنين عاديين وهم الأبطال الخلفيون للرواية وابرزهم بطلها وسارد أحداثها.
والكاتب يوهمنا بذكاء أن مؤلف الرواية مجهول ، ويحاول إيهامنا أن المؤلف البشري المدون اسمه على غلاف الرواية ليس سوى مكتشف النص وناشره أما صاحبها (الحقيقي) فقد طوته الأيام والسنون خلف سجوف الضياع والنسيان،وتلك تقنية سردية ترمي لإقناع القارئ بحيادية المؤلف بل غيابه عن الأحداث ، والحقيقة ان المؤلف (المجهول) ماهو إلا سارد الرواية وناظم أحداثها ، ولكن السارد او الراوي عندما يستخدم ضمير المتكلم يلتبس عند بعض القراء بالمؤلف الواقعي، فكان هذا الإيهام من طرف الكاتب بهذا المؤلف المجهول دالا وطريفا إلى حد كبير .
إن الرواية لاتنتمي للسرود التاريخية التوثيقية، ولا تلك التي تتقمص التاريخ لقراءة الواقع عن نحو سطحي فج.
إنها تجربةإبداعية تستكنه لحظة تراثية فارقة، وتتلبس أقنعة سردية حديثة بالغة التكثيف، ودون مبالغة في الإغراب والتجريب.
وهذا المستوى من ملامسة التراث نادر في التجربة الروائية العربية الطويلة وإن كانت درة جمال الغيطاني (الزيني بركات) تمثل أبرز نموذج في الرواية التاريخية ذات البعد العجائبي الفني المكثف ، ولا شك ان هذه الرواية تمثل انعطافة جوهرية في هذا المنحي السردي المتميز.