
مؤلف جديد:... "الطريق إلى تينبوكتُ"
إضافة نوعية للمكتبة الموريتانية
نشر الكاتب الموريتاني المتميز، صاحب القلم الحريري محمد فال ولد سيدي ميله كتابا جديدا بالغ الطرافة والإفادة تحت عنوان: (الطريق إلى تنبكت: على خطى ولد كيجه).
الكتاب إضافة لأنه يقدم خارطة أنتروبولوجية اجتماعية واقتصادية وسياسية عن غرب أفريقيا في مطلع القرن التاسع عشر؛
ورغم تشتت المادة التي ألف الكاتب على أساسها بين رحلات وحياة ريني كايي (ولد كيجه)؛
فقد استطاع جمع شتاتها وتأليفها تأليفا سلسا، منظما، محكما، بلغة أدبية ناصعة، وسرد تاريخي ماتع؛ دال على التمكن من ناصيتي اللغتين العربية والفرنسية، و الاستناد إلى منهج التأليف التاريخي السيّري والرحْلي.
ويمكن قبل -أن أعود بالبسط إلى الحديث عن هذا المؤلف الفريد في أسلوبه الشيق، وزاوية معالجته الطريفة لرحلات ولد كيجه المضنية إلى غرب أفريقيا، لاحقا- أن أستنبط بعض الملاحظات، بعد قراءتي الأولى للكتاب:
أولا: استطاع محمد فال سيدي ميله أن يأتي بالمفيد من رحلات رائد الاستعمار الفرنسي ريني كايي، و أن يصحح بعض مفاهيمه ومعلوماته المغلوطة، وينظم فوضى مذكراته ليصبها في قالب موحد محكم.
ثانيا: أبرز المؤلف كل معلومات ولد كيجه الاقتصادية والتجارية في مطلع القرن التاسع عشر ونهاية القرن الثامن عشر في موريتانيا والسينغال وغامبيا، وسيراليون ومالي والمغرب وفرنسا الملكية. وهي كلها معلومات نادرة بالغة الأهمية للدارسين في فهم اللهفة الاستعمارية على احتلال المنطقة وقلة معلوماتهم عنها، والمخيلة الأسطورية عن تنبكت "ذات البوابات السبع المذهبة".
ثالثا: قدم الكتاب صورة دقيقة الوصف عما رآه الرحالة المستعمر من نموذج حياة البظان بمختلف تجلياتها، وخاصة إمارة البراكنة، والتركيبة الاجتماعية، والمرافق التجارية والاقتصادية، من تجارة صمغ وتنمية رعوية وعادات و تقاليد، سواء فهمها الرحالة أو أساء فهمها.
رابعا: دلت المذكرات على أن ولد كيجه شخصية وفية لتعاليم ميكيافلي في أن الغاية تبرر الوسيلة.. ففي سبيل تحقيق هدفه مارس النفاق الديني، والكذب، والتزوير، والاحتيال، والغدر، والتشهير، والإساءة إلى من أحسن عليه، وعدم الأمانة، والادعاء، والتزلف، والانتهازية، ووصف الآخرين بما اتصف به من بخل وقذارة.. وبذلك مثل شخصية ميكيافيلية مثالية في سبيل تحقيق هدفه الأسمى الذي هو اكتشاف تنبكت.
خامسا: مثل ولد كيجه شخصية المغامر الذي لا يلين في الإصرار على تحقيق هدفه، والصبر على الأذى، ودخول الأخطار في سبيل إنجاز مهمته المستحيلة، تقريبا.
سادسا: يستنتج من وصف ولد كيجة للحياة العامة أن نظام العبودية كان في مطلع القرن الثامن عشر نظاما عالميا وإقليميا ومحليا، وأنه كان نظاما بشعا لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وأن نقطة "جزيرة كوري" في السينغال، ومجموعة الدوائر من حولها، وتجارة الرقيق الأوروبي إلى أوروبا والأمريكيتين.. كانت مزدهرة للغاية، وبشعة للغاية. لكنه يستبشعها استبشاعا انتقائيا لا يشمل تجار الرقيق الكبار من الأروبيين.
سادسا: نجح المؤلف محمد فال ولد سيدي ميله في تقديم كتاب مهم للدارس الاجتماعي والأنتروبولوجي ، وحتى الأتنولوجي، وحسنته الملفتة أن قدم المعلومات بعين الناقد المتبصر، والمترجم الأمين للمعلومات في نفس الوقت، فحججه على صاحب الرحلة تصحيحية تكميلية لا تفنيدية. ولم يحل بينه وبين المعلومة سوء فحواها على مجتمعه، ولا الروح السبابية التحاملية، الانتقامية المتعصبة لصاحب السيرة، فقدم ما دوّنه بأمانة كبيرة، وموضوعية.
سابعا: بذل المؤلف محمد فال جهدا كبيرا في فك مغاليق المسميات والمصطلحات التي أخذها ولد كيجه على غير وجهها تصحيفا وحذفا، وصحح معلومات حيوية حول الشائعة السائدة عن ولد كيجه، وإمامته المزعومة في البراكنه، وأسطورة: "وبطلت صلاة مؤتم بمن بان كافرا"، الشائعة في موريتانيا. وكذلك أكمل حياته بمصيره النهائي، فكان المؤلَّف سيرة ذاتية كاملة لريني كايي الذي مات بالسل بعد سنوات من عودته إلى فرنسا.
ثامنا: لقد استغلق أحد المصطلحات على محمد فال لسوء تصحيف ولد كيجه له وهو مصطلح "أودات". وهذا المصطلح حسب وصف ولد كيجة يعني به "اللّوّادِيّاتْ"، فهن من يقمن بمثل ما وصف. وهن فئة من النساء يعشن بالطريقة الطفيلية التي وصفها ولد كيجه، فأنبهه إلى ذلك حتى يضيفه للطبعات اللاحقة من مؤلفه النفيس الذي اختط فيه منهجا عقلانيا لاستغلال وقراءة مذكرات المستعمرين، باعتبارها مذكرات مغرضة، تؤول كل شيء انطلاقا من مصالحها، و مركزيتها الثقافية، وترفعها، ومكيافيليتها. لا قراءتها باعتبارها مسلمات وحقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها كما يفعل بعض الباحثين.
أخيرا: أهنئ كاتبنا المتميز محمد فال ولد سيدي ميله على أسلوبه المشرق، وزاوية نظره المتبصرة، واستنطاقه العقلاني لتجربة من أبرز تجارب التغلغل الاستعماري في أفريقيا الغربية وموريتانيا، المبكرة.
مؤلف شيق جدير بالقراءة رغم سوء طوية ولد كيجه وغدره.
د. محمد ولد أحظانا