المصدر : الوطن يكثرُ الحديثُ- اليوم- عن «الرُّقْيَةِ الشَّرْعِيَةِ»، نظرًا لتفشِّي الأمْراض البدنية والروحية، وتعقُّدِ البنْيات النفسيةِ الهشَّةِ، في هذا العصر المَأزُوم، لدرَجةِ الْتِمَاسِ العلاج، ولو بالوسائلِ حتَّى غيْر الشرْعية، لكنْ هل سمِعتمْ عنِ «الرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّةِ»، التي رَاقَ لِي اليوْمَ أنْ أتقاسَمَ مَعَكمْ بعْضَ التداعياتِ حوْلَهَا؟. لقد استرْعَى أذُنِي المُوسيقيةَ، ذلك التشابهُ الصوْتي بيْن «الشَّرْعِيَّة»، و«الشِّعْرِيَّة»، الذي يوحي- لسليقتي اللغوية- بقرابةٍ دلاليةٍ، حسَبَ نظرية ابْن جنّي القائلةِ بأنَّ كلَّ تقارُبٍ اشْتقاقي في المَبْنى، يقتضي تقاربا دلاليا في المَعْنَى، ورغْمَ التباعُدِ الظاهريّ بيْنَ حقلي «الشِّعْرِ» والشَّرْع»، فإنَّ «الرُّقْيَةَ» -على الأقلِّ- تقرِّبُ بيْنهما، فكما أنَّ للشَّرْع رُقْيَتَه الفعَّالة، فإنَّ للشِّعْر- أيضا- رُقْيَتَه، المتمثلة في طاقةِ «سِحْرِ البَيَانِ» الذي يَخْتَزِنُها، في بنْيَته النَّصِّيَّة، ويَنْفُثُها في المُتَلَقِّي، فيَفْعَل في نفْسِه الأعاجيب، كما أنَّ «الشَّاعر» «شَارِعٌ» لقواعِدِ فنِّه، ومُبْتَدِعٌ لقَوَانِينِه. فالشِّعْرُ سَلِيلُ ظواهِرَ رَوْحانيةٍ عَدِيدَةٍ، تَشْتَرِكُ في غموضِ المَاهيةِ، وصُعوبةِ تحْديدِ المَصْدَرِ الغيْبِي الذي تَنْحَدِرُ مِنْهُ، إذ نجد التَّنْظِيرات والتأويلات القديمة رَبَطتْ بَيْنَهُ معَ السِّحْرِ حِينًا، ومعَ الجِنِّ حِينًا آخَرَ.... ومِنْ هُنَا نَبَتَتْ عِنْدَ أمَّةِ العَرَبِ الشَّاعِرَةِ فِكْرَةُ شَيَاطِينِ الشِّعْر، وأسْطورَةُ وادِي عَبْقَرَ، وثُنَائِيَةُ «التوابِعِ والزوابِعِ»... وليْسَتْ إعَادةُ الشِّعْرِ إلَى تِلْكَ المَرْجَعِياتِ الغَيْبِيةِ، إلاَّ اعْتِرَافًا بِصُعُوبَتِهِ ورَوْعَتِه وجَمَالِه، لِدَرَجَةٍ يُسْتَكْثَرُ عَلَى الإنْسَانِ أنْ يَكُونَ مَصْدَرَهُ، رغْمَ أنَّهُ سَيِّدُ الأرْضِ، وخَلْيفَتُها المُبَجَّلِ منْ الله -جَلَّ وعَلاَ- بِمَلَكَةِ البَيَانِ العَجِيبَة. أجل إنّ الشِّعْر طلسمٌ إبْداعي، ظَلَّ- عبْرَ التاريخ- عَصِيا عَلَى «التَّعْريفاتِ»، فلمْ يَسْتَطِعْ «جامِعُها» أنْ يَقبضَ علَى ناصيةِ ماهيتهِ الزِّئْبَقِيةِ، ولمْ يَتَمَكَّنْ «مانُعُها» من منْعِ تَلَبُّسِه بِخَصَائِصِ هُوياتٍ أخْرَى، يَرْبِطُها به جَدَلُ المُعَانَقَةِ والمُفارَقَةِ، والاتِّصالِ والانْفِصالِ، بِصُورَةٍ مُحَيِّرَةٍ، أعْيَا الخُبَرَاءَ فَكُّ خُيُوطِ شَبَكَتِها. ومِنَ المَعْرُوفِ اليوْمَ أنَّ بعْضَ المُستشفياتِ الغرْبية المتطوِّرَة، تُمَارِسُ العِلاجَ بالشِّعْر، حيث ينْخَرِطُ الطبيبُ معَ مَرْضَاهُ، في طقْسِ «الرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّة»، كما يَحْلو لِي أنْ أسمِّيها، عبْر إلْقاءِ قصائدَ، يَنْتَقيها، بذوْقه الفنِّي، وحِسَّه الطبِّي، يعتبرُها أهمَّ وسائلِ «الطبِّ البديل»، كما أنَّ المرحوم الشاعر: فاروق شوشة- صاحب «لغتنا الجميلة»- قد ألفَّ كتابا بعنوان «العلاج بالشِّعْر». ولكنْ قبْل اكْتشافِ المُعاصرينَ- منَ العَرَب والغرْب- لِفَاعِلية هذه «الرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّة»، كانَ الشعراءُ -منْذُ وُجِدُوا- يُدْرِكُوَنَ التّأْثِيرَ الخارق لإيقاع كلماتِهم، في نُفوس مُتَلَقِّيها، وهلْ المدْحُ الاسْتِجْدائي، إلا رُقْيَةٌ لشُحِّ أصحاب الأمْوال، وهل الغَزَلُ إلا تخْديرٌ للفاتِناتِ المُتَمَنِّعَاتِ، وهل الشِّعْرُ الحَمَاسِي إلا نفْثٌ لروح الشجَاعة في الموْصوفِ به، وبثٌّ للرُّعْبِ في نفْس خَصْمِه، حتى أنَّ الشاعرَ جرير كان مُعْتَزًّا بقوَّةِ تأثير «رُقْيَتِه الشِّعْرية» في مَمْدُوحيه، التي يراها شيطانية، والتي لم يبطلْ سحْرَها إلا عُمَر بن عبْد العزيز باستقامته المعروفة، حيث قال للشعراء عندما خرج من عنده: رأيتُ رُقَى الشيْطان.. لا تَسْتَفِزُّهُ وقدْ كانَ شيْطانِي.. من الجِنِّ.. راقيا وغير بعيد من هذا السياقِ، يقالُ في الأدَبياتَ العربيةِ القديمةِ إنَّ الشِّعْرَ قدْ بَنَى دوْلةَ الأمويين؛ لأنَّ معاوية بن أبي سفيان، اعترفَ بأنَّه كادَ يَفِرُّ فِي اللحْظة الحاسِمَة، «ليْلَة الهَرير»، إحْدى مَعارك «صِفِّين» الفاصلة، لولا اسْتحضارُه أبْيَاتَ ابْنِ الاطنَابَة، التي تمْتَمَ بها، «رُقْيَةً شِعْرِيَّةً»، مَنَحَتْهُ الشَّجَاعَة والثبَاتَ.. حتى كسَبَ الرِّهَانَ السّياسي فِي النهاية. وقدْ كانَ هارونُ الرشيد- رمْزُ المُلْكِ العبَّاسي- يستخدمُ «الرُّقْيَةَ الشِّعْرِيَّةَ»، عِلاجًا نفْسيا، حين ينْتابُه الأرَقُ والنَّكَدُ، في عُقْرِ قصوره الباذخة، المَليئة بأصنافِ المُنَشِّطاتِ والمُسَلِّيات، فيُطْلِقُ جُمْلتَه المَعهودة: «مَنْ بالباب مِنَ الشُّعَرَاء؟». وفي الزمَن الأندلسي الجَميلِ، ألَّفَ ابنُ سعيد المغْربي كتابَه حوْل «المُطْرِباتِ والمُرْقِصَاتِ» من الشِّعْر، كما اختتمَه لسانُ الدينِ بنُ الخَطيب بتأليفِ كتابه: «السِّحْرُ والشِّعْر»، مُسَوِّغا- في مقدّمَته- اعتمادَه لهذا العنْوان، بأنَّ الشِّعْر الذي يَتَمَاهَى معَ السِّحْر، هو الذي يمْتلكُ فاعِليةً تأثيرٍ قويةً في نفْس المُتَلَقِّي أكثر من الشِّعْر العادي، فإذا سُمِعَ (عظُمَ الأثرُ، وظهَرتِ العِبَرُ، فشجَّعَ وأقْدَمَ، وسهّرَ ونوَّم، وحبّب السخاء إلى النفوس وشهَّى، وأضحكَ حتى ألْهَى، وأحْزَنَ وأبْكَى، وكثيرٌ من ذلك يُحْكَى، وهذه قوَّةٌ سِحْرِيَّةٌ، ومَعَانٍ بالإضافةِ إلى السِّحْرِ حَرِيّة. فمِنَ الواجبِ أنْ يُسَمَّى الصِّنْفُ من الشِّعْر الذي يَجْلبُ النفوسَ ويستفزُّها، ويثْنِى الأعطافَ ويهزُّها- بالسِّحْر، الذي ظهرتْ عليْه طباعه، وبين أنه نوع من أنواعه). ولولا أنَّ الأرْواحَ اليوم أصبحت «بْلاستيكية»، مُصَفَّحَة بغِلافِ مَادِّيٍّ كثيفٍ، لدعوْتُ لفتْحِ عياداتٍ وبرامجَ وقنَوَاتٍ، «للرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّة»، لكني أعرفُ أنَّ الاستثمار في حقل الجمال الرفيع، أصبح كاسدا، فالشعراء الشرفاء.. صارُوا مُجَرَّدَ صعاليك!