عقد مضى من الزمان، وقفت فيه مواقف مثل هذا الموقف، كانت كلها خارج الوطن، لكن أغلبها كان تمجيداً لثقافة وآداب هذا الوطن، وبعضها كان عن ثقافة الوطن الإسلامي والعربي الجامع. أما اليوم فأجدني في موقفٍ ما يسرني لو أن لي به حمر النعم، حيث شرفني الأديب الأريب رئيس اتحاد الكتاب والأدباء، أن أقدم ورقةً عن ديوان (حديث النخيل) للقامة الأدبية الشامخة، الراحل المقيم محمد كابر هاشم رحمه الله تعالى.
ولكي لا أطيل في التمهيد، فسوف أدخل في صميم الموضوع، مسائلاً نصوص الديوان الباذخة، عبر قراءة سريعة، تستجلي أبرز مضامينها، دون غوص في النقد بمفهومه التحليلي، لأن المقام مقام احتفاء وتأبين، لا مقام انتقادات ومآخذ.
وإذا أردنا بعبارة جامعة أن نلخص مضمون الديوان الماثل، فسنقول إنه ديوان (الأصالة والشموخ)، فحول ذينك المعنيين يدندن شاعرنا ويترنم، ولا يبعد عنهما إلا ليعود إليهما.. أصالةٌ تتمثل في التمسك بالإسلام والعروبة هويةً راسخة لهذا المجتمع، وشموخ تمثله باسقات النخيل، بوصفها رمزاً لإنسان هذه الأرض، الذي ينغرس في أرضه ليطاول عنان السماء، كما يفعل النخل في وديانه.
والحقيقة أن شاعرنا الفذ قد حالف التوفيق، حين اهتدى إلى رمزية النخلة في وجدان الإنسان الشنقيطي، الذي يحمل من صفاتها وخصائصها الكثير؛ فالنخل أصلاً مثال الإنسان المؤمن، كما في الحديث الشريف: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ، مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ).
والنخل يحيل إلى المدينة المنورة، التي هي منطلق الرسالة الهادية، فقد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: (إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ). والمدينة المنورة تمثل لأهل هذه البلاد المرجعية في الدين والعلم والأدب؛ فمذهبنا عمل أهل المدينة، وقراءتنا قراءتهم، وأدبنا ذو مسحة حجازية بادية:
حملوني من نبع يثرب ذكرى .. من عبير تفوح عطراً جميلا
طبت فرعا وموطنا وفصيلا .. وقبيلاً ومنبتاً ومسيلا
إن معاني الأصالة التي ملكت على شاعرنا لبّه لكي تتجلى في إبداعه، تتمثل في مفردات الإسلام والعروبة والفتح والمحاظر، وفي شخصيات رسخت مكانتها في وجدان الأمة، من أمثال عقبة بن نافع وعبد الله بن ياسين، والشيخ ما العينين، وسيدي ولد مولاي الزين.. ونتوقف مع عناصر تلك الأصالة من خلال العناوين التالية:
العروبة والإسلام:
إنهما عند شاعرنا صنوان لا يفترقان، ولا مجال للتعارض بينهما، بعدما أنزل الله كتابه العظيم (بلسان عربي مبين)، ولا مجال للتفريط في أي منهما أو التنازل عنه:
هذه الأرض نبضها عربي .. من قديم وهديها نبوي
خيل فتح يقودها لوذعي .. ورث المجد سيفه مشرفي
بدوي وصدقه ووفاه .. بدوي ونبله بدوي
ويبرز الشاعر تمسكه بالأرض، عنواناً للأصالة، ووفاءً لمرابع الأجداد:
هنا انغرسنا ولا يد تطال جنى .. نخيلنا اليعربي النسغ والعذق
هنا.. هنا.. هاهنا باقون مأسدة .. تحمي العروبة والإسلام بالحدق
إن الوحدة العربية التي ينشدها كابر هاشم، هي وحدة ذات هدف إسلامي، عنوانها المنشود تحرير الأقصى وفلسطين:
سنحمل البحر تياراً نذيب به .. كل الجوازات والحدود تنصعق
ونركب الوحدة الكبرى لتحملنا .. إلى فلسطين حيث الأرض تسترق
التعلق برسول الإسلام:
يلفت النظر ذلك الحضور المتكرر لشخصية الرسول الأعظم صلى الله عله وسلم، من خلال المدح النبوي، الذي يجمع النقاد على صعوبة الإبداع فيه، لأن كل مدح وإن تعاظم فهو قاصر عن مقام سيد الوجود.. بيد أن كابر هاشم يبعث في المديح شحنة من الألق والحرارة، من خلال التجديد في المفردات والاستعارات:
يا حزمة النور في ظلماءَ موحشةٍ .. تبارك النور يا سرَّ المقادير
سهل على المرء إكناء وتعميةٌ .. لو كان سرك يكنى بالتعابير
خيوط فجرك نور في تألقه .. سر النبوة يزجى بالتباشير
راية الضاد:
وبنفس المعنى الإسلامي، يمتشق الشاعر حروف الجهاد، منافحاً عن لسان الضاد، في بلاد كانت مضرب المثل والإعجاز في حفاظها على لغة العرب، حتى وصف شاعرها بأنه "عربي أخره الله"، فإذا بها يريد لها البعض أن تستبدل الذي أدنى بالذي هو خير، أن تترك لغة القرآن الجامعة والضامنة للهوية، لكي تنزلق إلى متاهات لا قرار لها، فيصرخ الشاعر منذرا ومحذراً:
إني أرى اللكنة الخرساء عائدةً .. والضاد يخبو حسيراً في المنابير
وفي المكاتب تجويدٌ لحرفهم .. يصير الضاد مفضول التعابير
استدعاء الماضي المجيد:
يريد شاعرنا لأمته ولبني وطنه، أن يعودوا ليقبسوا من أنوار ماضٍ مجيدٍ، فيغسلوا به أدران واقع رديء، صار فيه التشرذم والتقاتل عنواناً للأمة، بعدما كان عنوانها الفتوحات وعلو الشان:
نحن كنا للفتح رمزاً ورمزاً .. للمعالي وكل مجد وسعد
ما له اليوم؟ إنه مستباحٌ .. كل عرض وكل عز ومجد!
ويكثر شاعرنا الحنين إلى الفتح وأمجاده، وعن رجالات الفتح العظماء، الذين نقشوا أسماءهم على صفحات الخلود في تاريخ أرض الرباط، فيغرف من قاموس الشموخ والكبرياء:
حدث عن الفتح زهواً بابن ياسين .. وكيف في الرمل يسري هدي ياسين
حدث عن الركب والخيل الجياد وعن .. فتوح أجدادنا الغر الميامين
التاركين عتاق الخيل نافشة .. أعرافها مشرئبات العثانين
حداثة وإحياء:
بجدارةٍ، يمثل شاعرنا الخالد جيل الشعراء الذين حملوا راية التجديد في القصيدة، دون انبهار بدعاوى الحداثة المتفلتة، وإنما كان تجديدهم منطلقاً من النماذج الراقية في تاريخ القصيدة العربية، ففي قصائد كابر هاشم، تتردد أصداء القصيدة العباسية في أوج قوتها، كما فعل شوقي في مصر والجواهري في أرض الرافدين.
يتمسك شاعرنا بالجزالة دون إغراق في الغريب، ودون استنساخ مباشر للماضي، ولكنه لا ينجرف باتجاه الغموض أو التغميض الحداثي، بل يركب السهل الممتنع، لتكون قصيدته في متناول الجميع:
مرابطون على ثغر وشيمتهم .. على مدى الدهر أخلاقٌ وآداب
مخلدون فما تفنى مناقبهم .. فهم هم القوم ما عيبوا ولا عابوا
هم للمكارم أسباب توطدها .. وللمروءات أطناب وأسباب
لا أود أن أختم، وأظنكم أيضاً لا تودون، ولكنها إكراهات الوقت تفرض علينا الاكتفاء، لكي نردد مع الشاعر الكبير محمد عبد الله بن عمر في رثائه للراحل:
تناوح لما غاب عنا المنابرُ .. على غفلة منا محمد كابر
إلهي ارض عنه واعف عنه وأوله .. مقام سرور يوم تبلى السرائر
وأسبغ عليه من نعيمك حلةً .. ترصعها حمر الحلى والجواهر
_______
ألقيت هذه المداخلة في الحفل الذي أقامه اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين مساء يوم 21 مارس 2018 في فندق "وصال" بالعاصمة نواكشوط بمناسبة أربعينية الشاعر الرمز محمد كابر هاشم (رحمة الله عليه).