أدي ولد آدب .. القمر .. مكسوف منا

سبت, 08/04/2018 - 01:13

الكسوف والخسوف في الشمس والقمر كانا من الظواهر الفلكية النادرة الحدوث، بينما أصبح من الملحوظ تواترهما في السنة الواحدة عدة مرات، وبما أنني شاعر مصلوب بين اللغةـ والخيال، والتأويل، فقد وجدت- إثر كسوف القمر الطويل ليلة البارحة- دبيب خواطر وتداعيات تغزو شعوري وتفكيري، ومن ثم قلمي، أولها عنوان هذا المقال، وهو أن «القمر مكسوف منا»، وبمجرد ما تشكلت هذه الجملة في خَلَدِي، انتصب أمام عيني جيش من متحذلقي المستعربين، وأنصاف اللغويين.. يتهافتون إلى التخطئة، و«التلحين»، في نسبة الكسوف للقمر، بدل الخسوف؛ باعتبار الأول- في نظرهم- مخصوصا بالشمس، والثاني مخصوصا بالقمر، جازمين بذلك، دون تضلع من «الرواية والدراية»، في اللغة العربية الغنية السمحة المعطاء.. فلا يكون هجومهم الأعمى المتهور إلا بمثابة «تهافت التهافت»؛ لأنه ينقض نفسه، ويذهب زبده جفاء قبل الرد عليه، لأن أصحابه يتقمصون أن يكونوا «زبيبا» قبل أن يكونوا «حصرما»، وفي ذلك قفز على مراحل النمو الطبيعي للعنب، واللغة، والمعارف عموما.. فلله در أحمد بن فارس، حين سعى إلى الغوص في المعاني المحورية لألفاظ العربية، معنونا أحد كتبه الرائدة بـ «مقاييس اللغة»، الناظمة لأصول الدلالات الشاملة لجذورها العربية، حيث قال في سياق عنواننا:
«الْكَافُ وَالسِّينُ وَالْفَاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى تَغَيُّرٍ فِي حَالِ الشَّيْءِ إِلَى مَا لَا يُحَبُّ، وَعَلَى قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. مِنْ ذَلِكَ كُسُوفُ الْقَمَرِ، وَهُوَ زَوَال ضَوْئِهِ... 
وَأَمَّا الْقَطْعُ فَيُقَالُ: كَسَفَ الْعُرْقُوبُ بِالسَّيْفِ كَسْفًا يُكْسِفُهُ. وَالْكِسْفَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ الثَّوْبِ، يُقَالُ: أَعْطِنِي كِسْفَةً مِنْ ثَوْبِكَ. وَالْكِسْفَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْغَيْمِ».
ولا شك أن كسوف القمر الجميل البهي المنير، قنديل ظلام الكون الكبير- قبل تصنيع القناديل والمصابيح الكهربائية- هو «تغير في حاله إلى ما لا يحب»، وفق رأي بن فارس، وكأن فيه- من ناحية ثانية- قطعا لعرقوب هذا الكوكب السيار، أما من حيث نسبته الكسوف إلى القمر خصوصا، فهو تحليق في أفقي العلم والمجاز الواسعين، ورفض للانحباس في قفص، التضييق في عالم الدلالة والاصطلاح، وليس وحده في ذلك، ففي المعاجم:
«تكرر ذكر (الكسوف والخسوف) للشمس والقمر، فرواه جماعة بالكاف فيهما وجماعة بالخاء فيهما وجماعة في الشمس بالكاف وفي القمر بالخاء، والكثير في اللغة الكسوف للشمس والخسوف للقمر».
أما كون القمر «مكسوف منا»، كما يزعم العنوان، فربما يستثير- أيضا- بعض مُتُفَقِّهَةِ العصْر، الذين وصفهم حبر الأمة، وترجمان القرآن: عبد الله ابن عباس بأنهم «نسكوا نسْكا أعجميا»؛ لأنهم ينظرون إلى اللغة نظرة ضيقة الأفق، حَدِّيَة الرؤية، لا تنفذ إلى تعدد معانيها، ولا ترقى إلى مدى مجازاتها، فالحرام حرام بدون تدرج، ولا تردد، وكل حكم كذلك عندهم.. فقد يحتج هؤلاء بأن «الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته»، كما في الحديث النبوي... ويقيسان على ذلك أن القمر إذن ليس «مكسوفا منا»، دون أن يفهموا أن الكسوف المقصود هنا هو وصف شعوري مجازي، نقل- في الأصل- من الكوكب إلى الإنسان، ثم أعيد نقله- مجازا أيضا- من الإنسان إلى الفلك... إذ المجاز- في التعابير- ليس إلا عبورا من العُدْوة الدنيا «للحقيقة اللغوية، إلى العدوة القصوى للتخييل الأدبي، وأنا أرى هنا- تخييلا- أن هذا القمر الذي يبيت كل ليلة يتفرس في عالمنا، خلال سباحته الدائبة في أفق الكون، ويرى أحوالنا المتردية، على مختلف المستويات، قد اعترته «رقة وخمول»، فانكسفت روحه، قبل جرمه، حيث يُقَالُ في اللغة العربية: «رَجُلٌ كَاسِفُ الْوَجْهِ، إِذَا كَانَ عَابِسًا. وَهُوَ كَاسِفُ الْبَالِ، أَيْ سَيِّئُ الْحَالِ». 
«ورجل كاسف مهموم قد تغير لونه.. يقال: كسفت باله إذا حدثته نفسه بالشر، وقيل: كسوف باله أن يضيق عليه أمله».
مسكين قمرنا الجميل لم نكافئه، بمثل مشهده الجميل، وبهجته التي طالما منحنا إياها، كلما نظرنا إليه بازغا، لقد أقذينا عينه، برؤية كل ما لا يسر، من قتل، وهوان، وظلم...... حتى أصيب بالإحباط والخجل، واضطر لغض بصره الوهاج، كما قال أبو ذؤيب:
يرمي الغيوب بعينيه ومطرفه
مغض كما كسف المستأخذ الرمد
بلى.. إنه «كاسفٌ... انْقَطع رجاؤه مِمَّا كَانَ يأْمُل وَلم يَنبسِطْ».
والحقيقة أن هذا الربط المجازي بين عالمي الفلك والإنسان في وحدة الشعور، وتبادل التأثير، وإسقاط ما للعوالم من صفات على بعضها البعض، عبر دمج كل الذوات والمواضيع في بؤرة ذات الشاعر والأديب عموما- كان- ولا يزال- ملمحا أسلوبيا أصيلا في البيان العربي؛ فهذا جرير جعل الأفلاك تشاركه حزنه الكوني في المأتم الوجودي، على فقيده؛ حيث يقول:
والشمس طالعة ليست بكاسفة
تبكي عليك- نُجومَ الليل والقمرا
وقد علق اللغويون على البيت بأن «مَعْنَاهُ أَنَّهَا طالعةٌ تبْكي عَلَيْك ولمْ تَكْسف النجوم وَلَا القمر لِأَنَّهَا فِي طُلُوعهَا خاشعةٌ لَا نُورَ لَهَا، خَشَعَت الشَّمْس وكسَفَتْ وَخسَفَتْ بِمَعْنى وَاحِد».

 

المصدر: الوطن القطرية