كان دائما بي شغف مطالعة السير الذاتية للكتّاب، الأدباء والفنانين وكأنّني أبحث من خلالها عن دعم ما، عن سند معنوي، صديق، لمواجهة حالة من حالات الفتور، التعب، اليأس، الملل وغيرها من حالات الضعف وتراجع القوى التي تصيب الإنسان أمام منغصات الحياة اليومية والحواجز الظاهرة والخفيّة التي يبرع الناس في زماننا هذا في زرعها بطريقنا الطموح دائما.. حتى وقع بين يديّ كتاب " وراء السحاب" لمؤلّفه الأستاذ الطيب ولد لعروسي ، سيرة ذاتية من تقديم د. فكري الميموني والصادر عن دار خيال ببرج بوعريريج – الجزائر ورحت أتأمّل هذا العنوان المستفزّ للمخيّلة والكريم في انفتاحه على روح السؤال: - ماذا يوجد وراء السحاب يا ترى ؟..
أخذت الكتاب بين يديّ، أحضن هذا الغلاف الذي نصفه بيت من الطين أو ضريح بنافذة وباب مفتوحتان على رهيف ورحيق الذاكرة يزكي المكان وشجرة واقفة، عارية في مهبّ الحنين، بينما نصفه الآخر، سماء انفرط عقد السحاب بها لتسلم لونها لسحر التأويل ، دافئا كحلم الأمن والسلام ..
فكيف لي أن لا أستجيب بعد ذلك إلى هذه الدعوة الكريمة لتقاسم سحر المقام ، مقام الذاكرة، المتدفق بروح الحكي ..
وهكذا أيضا ، شرعت في قراءة الكتاب ومرافقة الأستاذ الطيّب في رحلته إلى الماضي ومحاولة استعادة تفاصيلها بحلوها ومرّها، أحزانها والأفراح وعبرالـ 200 صفحة ..
بداية بالإهداء الكريم الذي حاول من خلاله أن لا ينسى أحدا من الأسرة أو الأصدقاء ممن كانوا شهداء على هذه الرحلة و فاعلين فيها أيضا، اعترافا نبيلا لمكانتهم وتقديرا لدعمهم.
إلى المقدمة التي أعرب فيها الدكتور شكري الميموني –مدير قسم الدراسات العربية بجامعة رين 2 ، عن جملة المشاعر التي انتابته محبّة، تعاطفا وإكبارا من خلال تتبعه لمراحل سيرة المؤلف خاصة طفولته ومعاناته وأهل قريته من ويلات الاستعمار الغاشم أنذاك . ودعوته إلى الاعتبار بهذه السيرة العطرة من الكفاح، التضحية والبذل.
و لم أشعر و أنا أتصفح عوالم " وراء السحاب" بتوغلي أكثر فأكثر في تلال، روابي، مرتفعات وجبال هذه التجربة الحياتية الإنسانية، العلمية الفكرية والأدبية ..
وحيث للمكان سحر أشجان الأحاديث بالمكابدات والمعايشة الصادقة والصريحة التي برعت في نقلها الصورة آلاما، آمالا وطموحات مكابرة .
يأخذنا المؤلف إلى طفولته أين ولد بقرية " سيدي محمد الخيذر" التي تحضن جبل " كاف أفول" الذي يقع غير بعيد عن مدينتي: " سيدي عيسى" و" شلالة العذاورة" هذه الطفولة التي شهدت معاناة الكاتب وأمثاله من الجزائريين من ويلات الاستعمار الغاشم الذي ترك علامات تنكيل واضحة بروحه الصغيرة التي لم تكن تنعم بالاستقرار وما يبيحه من إمكانيات التعلم وتحصيل ولو النزر القليل من القراءة والكتابة .
طفولة شهدت أيضا غياب الأب الذي أودع السجن رفقة مجموعة كبيرة من أصدقائه ورفاقه بعد أن انتفضوا للدفاع عن كرامتهم وكرامة الجزائر وقد ألقي عليهم القبض بعد ذلك وأودعوا سجن المستعمر الفرنسي الغاشم.وانعكاس هذا الوضع المأساوي على يوميات الكاتب ليعيش التشرد ، الفقر، بعد ذلك .
و مقابل ذلك حضرت المرأة بشكل ملفت من خلال جدّته وأمه ، دليل احترامه للمرأة منذ الصغر ويؤكد ذلك حين يقول: " فإني رغم حجم المعاناة التي مررت بها، أعتبر نفسي محظوظا لأنني عشت مع أروع امرأتين ومعلّمتين وحبيبتين فتّحتا عينيّ على الصبر والمواظبة والمغالبة والتحدّي والأمل " .
تعرّف على والده بعد خروجه من السجن، حيث بذل جهده لتعليم الكاتب وأخيه بعد أن خصّص وقته وهو بالسجن للتحصيل الدراسي وقد غادره وهو برتبة معلم لغة عربية ليغير وجوده حياة الابن والعائلة من خلال الحث على التعليم والانتقال إلى المدينة من أجل تغيير نمط تلك الحياة التي لم تعد مناسبة لطموح الوعي المترتب على نعمتي العلم والتعلّم .
غياب الأب الذي تكرر سنة 1963 إثر الأحداث التي وقعت بين المغرب والجزائر بسبب مشاكل حدودية بمنطقتي تندوف وحاسي البيضاء وامتدت إلى مدينة فكيك المغربية لتتوقف المعارك في الخامس من نوفمبر من ذات العام ، هذه الحادثة التي خلفت توترا مزمنا في العلاقات المغربية الجزائرية .
اشتهرت قريته بمجموعة من الأولياء الصالحين الذين كانت لهم أيادي بيضاء وكرامات حسب معتقدات أهالي المنطقة ، هم الذين قضوا حياتهم في التعبّد والتجؤوا بعد ذلك إلى زرع قيم التسامح والرحمة بين الناس ، إضافة إلى الزوايا التي لعبت دورا هاما في حياة الكاتب وتربيته من خلال أمسيات الذكر والاحتكاك بزوارها من بينها زاوية سيدي محمد الخيذر التي يعود تأسيسها إلى القرن الخامس عشر الميلادي و تعتبر معلما تاريخيا وثقافيا ساهم مساهمة فعالة في نشر المعرفة والحفاظ على اللغة العربية وبالمقابل لم تكن هناك مدرسة حيث ساد الاعتقاد أن التعليم متوقف على حفظ القران الكريم وقد كان الجامع
( الكتّاب) هو البديل لحفظ وتعلم آيات القران الكريم ولم يتعلم الكاتب القراءة والكتابة إلا في سن متأخرة .
من خلال سيرته يقف المؤلّف عند فترة هامة من تاريخ الجزائر قبل وبعد الاستقلال واعيا بضرورة التنبيه لمحطات تاريخية هامّة وشخصيات كان لها دورها الفعّال في الثورة التحريرية مثل، البطل محمد خميستي وفاطمة نسومر الملقبة بـ " خولة الجزائر" أو " أخت الرجال"، يحيل القارئ على مدى اجتهاد الكاتب وبحثه في سياق جمع المعلومات ومختلف القرائن التاريخية خاصة فيما يتعلق بالتعريف بمنطقة شلالة العذاورة والمناطق الأثرية المجاورة لها مؤكدا على تاريخ الأماكن وقيمها الوجودية والحضارية.
المؤلّف، هذا الطفل الذي كان دائم التفكير في الكون الذي يراه جميلا رغم كل المتاعب اليومية وقد حدّد مستقبله في ردّ على صديقه الذي اختار أن يواصل عمله في الرعي، قائلا: " سأنزل من طائرة وأصعد في أخرى" ..
يتحدث عن طفولته بكل العفوية والصدق الذين تبيحهما المصالحة مع الذات ليقول:
-" ورغم نعلي الممزق كنت أحسّ بالزهو وأنا أزحزح بعض الصخور فتنحدر محدثة أصواتا تتلاشى مع الصدى " .ص: 76
هذا الطفل الذي كبر بعينه التأمّل واتسعت آفاقه رغم محدودية جغرافية المكان معبرا عن ذلك بقوله : " وكأنّنا في فضاء يخصّنا نحن أولاد سيدي محمد الخيذر وأنّ تلك الجبال المحيطة بنا هي بمثابة سطح يجلس عليه الله لحمايتنا " .ص: 77
" وراء السحاب" أين تقع مدينة البيرين كما أخبره والده ، البيرين التي بدأ وعيه بالكتابة بها وتوطدت علاقته بالقراءة والكتاب ، البيرين مدينة الشهداء والتضحيات في سبيل تحرير الوطن وهي موطن الأولياء أيضا ومما زاد تعلقه بها ، هو احترام أهلها للمرأة وتمتعها بهامش من الحرية سمح لها بان تكون عضوا فعالا بالمجتمع خاصة في تلك الفترة حتى وان لم يمكث بها إلا عدة أشهر فقط فقد تركت بنفسه انطباعا هاما وراسخا .
ليواصل طرح أسئلته بخصوص جزائر ما بعد الاستقلال وتطورات الأحداث بها، حول لا مبالاة المسؤولين خاصة بعد تنقله إلى الجزائر العاصمة لمواصلة دروسه في 1969 .
سيرة أعاد فيها الاعتبار للثقافة، دور السينما، الأغنية، ، الأصول التاريخية لنشأة فن الدراما من خلال تعرضه لحكايات المدّاحين والأدب الشعبي في أسواق مدينة البيرين .. وتأسّف لمصير الكثير من فضاءات القراءة التي حوّلت إلى نشاطات تجارية أخرى كالأكلات السريعة في الغالب.
ثمّ يأتي الحديث عن الحادثة التي قلبت حياته رأسا على عقب والمتمثلة في تعرضه إلى حادث قطار بجسر القطّار يوم الثلاثاء 6 أكتوبر1970و إصابة يده اليسرى.. وكيف تعامل معها بروح الصبر و الرضى رغم الآلام والمعاناة وتنقلاته بين مستشفىات تقصراين، مصطفى باشا و( بارنيه ) ومستشفى الدويرة ولمدة عامين، ثمّ إلى مستشفى باريس بعد ذلك وكيف أنه قاوم هذا الألم المتواصل ببلسمي القراءة والحبّ ..
رغم أن والده اضطر لدفع غرامة مالية اثر استدعاء من قصر العدالة لان ابنه ( ضحية الحادث) قيّد بصفته هو المذنب في حق القطار، أنظر المفارقة ..
تحقق بعض حلمه عند تحصله على شهادة الأهلية سنة 1972 وعلى شهادة ممرّن مما يرشحه ليكون معلما ليواصل طموحه من اجل تحسين وضعه وتحقيق حلمه .
انتقل إلى باريس في 30 جوان 1973 لأنه كان على موعد بمستشفاها يوم 03 جويلية لمواصلة رحلة العلاج ..
وهنا يتوقف الكاتب عن سرد الشطر الأول من سيرته ، ليواصل ما تبقى منها في الجزء الثاني كما أخبرنا .
وقد صرّح في حوار للإذاعة الجزائرية من ولاية المدية في ثاني تقديم لكتابه بعد لقاء تلفزيون ال بي بي سي :
" لقد احترمت ميثاق السيرة الذاتية من خلال التزامي بالنظام الزمني ، الحديث عن الآخرين و أنا أتحدث عن نفسي، وبالصراحة التي يقتضيها المقام " .
الطيب ولد لعروسي مدير كرسي بمعهد العالم العربي بباريس صال وجال بالقارات الخمس، المستشار، الباحث ، المحقق وكاتب أدب السير والرحلة ، أوّل من أنجز مكتبة بقطاع غزة، أول من أسس لملتقى أبي شنب بمدينة المدية وصاحب مبادرة مكتبة مصطفى الأشرف وملتقى شلالة لعذاورة والحامل لمشروع ثقافي يعمل على المساهمة الفعالة في إحياء تراث الجزائر، تقديرا لأعلامها الفكرية والأدبية وحفاظا على كنوز ذاكرتها الحضارية والإنسانية.
منيرة سعدة خلخال .