قال الفيلسوف الإنكليزي "غيلبرت رايل" في كتابه مفهوم العقل:
(1949م) "إن الكثير من المعضلات الفلسفية والنظريات الغربية نشأت من الخلط في تفسير المصطلحات اللغوية"
من المعروف أن رايل بنى فلسفته العقلية على رفض ثنائية "ديكارت" التي تَعْتبِر أن العقل و الجسم جوهران مختلفان، أحدهما مادي و الآخر مُختلف عنه تماما ،حيث رأى "غيلبرت رايل " أن العقل اسم يُطلق على مجموعة واسعة من السلوكيات التي نقوم بها ،و أنه غير موجود إلا في تفسيرنا لمصطلحات السلوك.
فهل العقل موجود فعلا؟
و كيف يكون اتصاله بالجانب المادي؟
و هل يمكن تحديده بمجموعة من المحددات التي تُميِّزه عن غيره؟
تقِف أمام رفض وجود العقل مجموعة من العقبات التي تَفُتُّ في عضُدِ المُنكِرين لوجوده أصلا ، فالتفكير نفسه و التدوين و التوثيق و الملاحظة و حتى السباحة في عالم الخيال الواسع و نحن لم نحرك ساكنا من مكاننا كلها أدلة على عمل ليس ماديا بحتا،و هذا العمل و الحراك لا يرتبط بجانب الجسم المادي ، وقد يكون ذلك أثناء النوم العميق، حين يخلد الجانب المادي إلى سبات تام و طويل.
و لكن ثنائية ديكارت التي تفصل بين العقل و الجسم لم تُقدم عبر طرحها أدلة مُقنعة للفلاسفة على ذلك الفصل النظري بين الجوهرين المُتمايزين، فهي تُقدمهما بتعاريف تُشبه المسلَّمات أو القفز على حقائق .
و إن عدنا إلى " غيلبرت رايل" و رأيه أن التفسير الخاطئ للمصطلحات السلوكية هو أصل وجود العقل و تسميته ، فهل مجموعة السلوكيات التي تُسمى عقلا ناتجة عن الجانب المادي ؟
و كيف يُفسر وجود جانب مادي لا يمتلكُ تلك السلوكيات و لا بعضها؟
يطرح بعض الفلاسفة العقل في الأجهزة الألكترونية كجهاز الحاسب الآلي بوصفه من الأمثلة الشاهدة على وجود عقل أو عفريت آليِّ و هو في حقيقته عبارة عن مجموعة برمجيات سلوكية خالصة، و لكنهم يتجاهلون أن تلك السلوكيات و البرمجيات هي جزء بسيط من تأثير العقل المُنتِج لها ، و بالتالي ففصلها عنه للاستشهاد بها عليه فيه حَيفٌ كبيرٌ و تجاوز واضح لأدوات التبرير و مُقتضيات الإثبات.
و إذا قمنا بتصوُّر واقعٍ ما، في مكان ما، لم نشهد مثله في السابق، و لا تصوَّره غيرنا من قبل ، فهل يعني ذلك أن ذاكرة ما وُلدت معنا أو طورت نفسها عبر أعمارنا ، فمن أين تأتي تلك الأفكار و التصورات إذا كان الموجود مجموعة سلوكيات يؤثر فيها الواقع ، و هو الدافع إليها أصلا.
إن مشكلة العقل تزداد تعقيدا حين يحاول العقل تعريف نفسه ، أو تمييزها عن غيرها، الأمر الذي يحتاج فصلا و نظرة خارجية ، و هي أمور يُعجِزنا مرحليا امتلاكُها أو محاولة تجاوزها و لو للحظات قليلة.
يمكننا الفصل بين مجموعات من السلوكيات و تحديدها حسب الأمر و الطلب، من هذه السلوكيات ما هو غريزي و ضروري لاستمرار الحياة نفسها و هو موجود عند الحيوانات ، و منها سلوكيات لا تحددها غرائز البقاء و لا تدخل تحت إطارها الكبير و الواسع ،
فمن أين تأتي و ما هي مصادرها؟
و من أين جاءت تلك الأوامر؟
و كيف نفسر مجالاتها الواسعة و الخارجة حتى على حدودنا المادية؟
هذه السلوكيات التي لا تَرتهن لسلطة الغرائز، و لا لجانب المنفعة الآنية و التي تتسع باتساع المعرفة و الإدراك هي التي يمكِن أن نطلق عليها العقل أو القائد و المُحفِّز و لو لم تكن مستقلة لما كان لها ذلك الوجود و التأثير في حال سبات الجسم أو عجزه، لكن تلك الاستقلالية قد لا تكون بمفهوم الفصل أو التّمايُز المُطلق الحاد.