يقول الفنان و الملحن و الكاتب
الأميركي جون وليامز :
"ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤك ضيقا؟ "
ليس هذا الفنان فيلسوفا بما تعنيه الفلسفة من تحديد المعارف و التوجهات، و لكن الفلسفة ليست دائما تنظيرا جافا جامدا، بل الفلسفة قراءة و زاوية نظر و استنطاق مفاهيم، و محاورة الطبيعة و الأفكار لفهمها و التقرب منها ، فالملامسة و المجالسة و المعاينة كلها معينة على دقة الفهم و قربه من الصواب الآني على أقل تقدير، لأن إدراك الصواب المطلق يطرح أسئلة ثابتة، بينما الحياة متحركة دائما ، وذلك ما يجعل ثوابت القوانين تتأخر عن مسايرة الأحداث .
عبارة الحذاء تحمل شحنات سالبة في بعض المجتمعات التي تنظر إلى ارتفاع الأشياء و طولها نظرة تفوقٍ ، و تعتبر السطح تحصيل حاصل ، و ساحة أبدية لا يُكلف الوقوف عليها جهدا،و الحذاء عند الفيزياء الدعامة الأساسية و وسيلة الحركة و الحركة هي الحياة، فهي الفرق بين الحي و الجامد، و الحذاء عند بعض الشعوب يعني الصحبة و الراحة و المُرافقة و الطاعة.
اتساع الدنيا قد لا يكون بمعنى الفضاء الماديِّ للأجسام فقط رغم أنه جزء الاتساع الأوضح، و لكنه قد يكون التوافق و القبول و الملاءمةَ، و قد تضيق الأفكار و التصورات و المفاهيم فتجعل ذلك الفضاء الواسع تنطبِق أبعاده على نفسها حتى لا تترك مجالا لذرة هواء واحدة شاردةٍ.
يقول جون وليامز :
ما فائدة الدنيا الواسعة... ؟
الدنيا الواسعة هي الحياة بكل أشكالها و جوهرها و خيالها و أفكارها... و المقصود أن الفرد ينظر إلى الدنيا بما يحسه هو ، بما يحدُث له، بما يُضايقه ، و هذه النظرة هي التي تشكل الفضاء الفعليَّ المنظورَ و المُتصوَّرَ عنده ، و بلمسة تعميم يكون ذلك هو الفضاء الحقيقي على كل البقاع ، حتى تلك التي لم تزُر خيالَه و لا أحلامه يوما من الأيام، و لو بصفة خاطفة سريعة.
من هذه النظرة وُلِد التشاؤمُ و كان توأمَ التفاؤل ،لكن من أم أخرى و أب مُختلف جينيا بمعنى فكريا ، حسب الحظوظ و الأرزاق و الظروف، و من هذه النظرة خرجت التعميمات التي تُصادر حقِّ الآخر و فكرته و تجربته و حتى حياته الاجتماعية، و هي النظرة التي تُرتِّبُ له كيفيةَ الاختيار ، و مجالات الذوق الرفيع و المناسب.
حين تقرِصكَ الدنيا بأي ناب من أنيابها صغيرة أو كبيرة تُدرك كيف تقترب الزوايا من بعضها البعض ، و كيف يحرك الألمُ ساعته ، تلك الساعة التي يتِمُّ حساب ثوانيها حسابا دقيقا، و لا تمُرُّ كما تمُرُّ الأيام و الأشهر و السنوات، إنها الساعة المِسبار ، الساعة الفاحصة التي لا يمكننا تجاهلها ، و لا تركها إلى أمور أخرى مفيدة أو مُسليَّة.
الحذاء الضَّيِّق ، هل هو الرزق؟
أم هو الحظوظ ؟
أم أنه الظروف؟
و هل يقتصر على المجسمات ؟
أم أنه يشمل الآمال و الأحلام ؟
أم هو ضيق في الأفكار و المعارف؟
الحذاء الضيق يمكن التخلص منه بسهولة عندما نرميه في وجه عبوسة الأيام، و جلَفِ الجِوار و نُباح حراس القمامة، هذا إذا كان الحذاء من الملبوس المُنفصلِ عن أجسادنا ، أما إذا كان الضيق جزءا من بنيتنا الجسمانية أو المعنوية فسيكون تحديده في غاية الصعوبة، و إذا تم صدفةً ففصله أشد صعوبة بكل تأكيد.
"ما فائدة الدنيا الواسعة إذا كان حذاؤكَ ضيِّقا ؟ "
ما فائدة الأفكار إذا كان تطبيقها مربحا لَكَ على حساب الناس و المحيط؟
ما فائدة الحرية إذا استخدمت لتقييد حرية الآخرين؟
ما فائدة العلم و التكنلوجيا إذا استُخدما لدمار البشرية ؟
ما فائدة استخراج الثروات إذا كان يلوث المناخ و يضر الإنسان؟
ما فائدة الأخلاق و الذوق الرفيع إذا كنت لا تستخدمهما إلا حِين تُغلق بإحكام باب منزلك الخاص ؟
باب ذوقك و فهمك و اختياراتك؟
ما فائدة التّعليمِ إذا كانت أنيابك تُدْمن نهشَ الآخر كل يوم؟
ما المنهج الذي ستسير عليه إذا كنت لا تقبل المخالف و أنت في بدايات الطريق ؟
إذا كان الحذاء يؤلمكَ بسبب ضيقه ، فأنت أيضا تؤلمه بتحمِيله فوق طاقته،لكنك من اختار و هم مُجبَر مُسيَّر، و لو مُلِّكَ أمره لاختار الثبات في مكان ما و عدم الذهاب في مَسارٍ لا يَعنيه و لا يَهُمه.
الأسئلة السابقة هي أسئلةُ الحذاء ، الذي أدْمَن الأشواك و الأحجار و لم يجِد حظا من التكريم و التفخيم، و لم يقترب من المكرفون و الكاميرا ، و لم يكن يوما محط أنظار الحاضرين ، رغم أن كل أدوات النجاح و التفوق كانت على ظهره ، على خُطاه، و كان أنينه يومها الموسيقى الوحيدة، قبل حفلة التصفيق التي جاءت متأخِّرةً جدا، لتفوز بالأحضان و القبلات و الجوائز، و يترك هو وحيدا أمام الباب ، و لأول مرة، لأنه مُقرِفٌ و مُقزِّز.