إبراهيم الملا (الشارقة)
تتعالق العزلة مع التوحّش، فيصبح مصير المرء مرهوناً بردّات فعل غير متوقعة، خصوصاً إذا كانت البيئة المحيطة بالشخوص المتأزمين هي ذاتها مصدر تهديد لضحايا لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا في المكان الخطأ، والزمان الخطأ.
هذا المدخل يمكن اعتماده كعتبة أولى لقراءة فيلم منهك بصرياً ومؤلم وجدانياً عند تعاطيه مع حبكة ضارية ومغلقة في العمق رغم اتساع المكان وانفتاحه على فضاء أبيض ممتد، ورغم تعارضه في الشكل والبنية مع المحتوى المعتم للقصة، الفيلم بعنوان: «تمسّك بالظلام» Hold The Dark وهو الفيلم الروائي الرابع للمخرج الأميركي الشاب جيريمي سولنير بعد تقديمه لأفلام اتسمت بطابع غرائبي لا يخلو من عنف ورعب ضمني وهي على التوالي فيلم: «حفلة القاتل» و«الخراب الأزرق» و«الغرفة الخضراء».
في فيلمه الجديد «تمسّك بالظلام» يستند المخرج على غريزة الانتقام كمعبر أو جسر للتعاطي مع أكثر المشاعر الإنسانية سوداوية وشراسة، فيضع في بداية الفيلم عبارة دالّة على هذا التوجه الداكن حيث يقتبس للشاعر الإنجليزي من العصر الفيكتوري «جيرارد مانلي هوبكنز» عبارة تقول: «شرير بالفطرة.. ولكن بالحق ينطق»، متماهيا كذلك مع أطياف سردية لرواية هيرمان هيسه «ذئب البوادي» ليصيغ شخصياته على هوى هذا الاستنزاف الداخلي الذي يفرضه العيش في مناخ كابوسي يجمع بين الشعوذة والجنون المستتر، معتمداً على شخصية الأم: ميدورا (تقوم بدورها الممثلة رايلي كيو) التي تعيش في منطقة منعزلة في أقاصي ولاية ألاسكا الأميركية والتي يقطنها أيضا مجموعة من السكان الأصليين المهمشين، تدّعي الأم فقدانها لابنها، وتلقي اللوم على الذئاب المتوحشة التي تعتقد أنها قضت على طفلها الوحيد، بينما زوجها غائب عنها لمشاركته في حرب العراق، ما يضطرها لاستدعاء كاتب متخصص في دراسة سلوكيات الذئاب كي يتقصى أثر هذه الجريمة ويفك لغز اختفاء ابنها، عندما يأتي الكاتب راسل كور (يقوم بدوره الممثل جيفري رايت) يكون مدفوعاً هو الآخر بعاطفة ناقصة يأمل في تعويضها من خلال التواصل مع ابنته الوحيدة التي تدرس في جامعة قريبة من المنطقة التي تقع فيها الأحداث، ولكن وقع المفاجأة سيكون ثقيلا ومدوياً على الكاتب عند اكتشافه أن الأم مسكونة بهاجس يدفعها لممارسة طقوس مريبة والقيام بتصرفات سادية لا تعبر عن مظهرها الهادئ والمسالم، ورغم ذلك يذهب في صباح اليوم التالي للبحث عن الذئاب المفترسة والتوصل لمكان اختفاء الطفل، تبوء محاولته بالفشل ويعود للمنزل منهكاً ويكتشف اختفاء الأم، وعند بحثه عنها في دهاليز المنزل السفلية يرى جثة الطفل فيصاب بالهلع ويستدعي الشرطة للتحقيق في الجريمة، تنطلق الأحداث الصاخبة في الفيلم بداية من هذا الاكتشاف المخيف، والذي يزداد تأثيره، وتتوسع دائرته، مع عودة الأب المصاب في الحرب، حيث يتواطأ مع أحد السكان الأصليين من أجل تصفية قوات الشرطة، ومن ثم البحث عن الزوجة الهاربة، ومن خلال معركة طاحنة وموغلة في دمويتها، يرى الكاتب نفسه وسط مذبحة رهيبة يذهب ضحيتها العشرات من أفراد الشرطة، بينما يبقى هو والزوج المتخفي ورئيس الشرطة في حيّز خانق من الشكوك والمطاردات والبحث عن تفسير لكل هذا التسلسل المروّع من الفتك، والقتل، والتشابك العنيف بين السلوك البشري لأناس محطمين نفسيا، وبين السلوك الحيواني للذئاب الطليقة في السهوب الثلجية، تنتهي المطاردة بمقتل رئيس الشرطة على يد الزوج، بينما يصاب الكاتب بسهم حاد يطلقه الزوج باتجاهه عند عثوره على مخبأ الزوجة ولكنه ينجو في النهاية ويلتقي بابنته في المستشفى، وتكتمل المفاجأة الكبرى في الفيلم عندما يقوم الزوج والزوجة باستخراج جثة طفلهما الوحيد واصطحابه إلى مكان مجهول، دون أن نجد مبرراً لذلك سوى أن الزوجين باتا أسيرين لطقس شعائري مبهم، ولعقيد سرية ولكنها شريرة، دفعتهما لتقديم طفلهما كقربان لقوة عليا أو روح معتمة تتحكم في تصرفاتها وأفعالهما الإجرامية، والتي يمثلها هنا شيطان الذئاب، والذي يطلق عليه سكان المناطق الثلجية الوعرة اسم: «تورناك».
عانى الفيلم قصدية الغموض الذي بدا مقحماً، وغير مستند لتاريخ شخصي واضح يبرر ردّات العنيفة لغريزة الانتقام، بجانب أن البنية العامة للفيلم بدت مفككة ومترامية مثل ترامي الطبيعة الغابوية ذاتها، وبالتالي لم يكن الربط بين الأحداث متاحاً للمشاهد كي يتفاعل مع الشخصيات المتأزمة أو يتعاطف معها على الأقل، ولكن مع ذلك حاول المخرج إلقاء الضوء على معاناة المناطق النائية في أميركا والتي تفتقد الاهتمام من قبل السلطات الحاكمة، ما يخلق في داخلها بؤرا للتوتر، والنزوع للصدام، وتهيئة بيئة خصبة للمجرمين والشخصيات السايكوباتية، والأخرى الملوّثة بأفكار ومعتقدات تدميرية تتناسل وسطها الشرور ويتمازج فيها بؤس المكان مع اليأس المطلق، ويدل على ذلك الحوار بين أحد السكان الأصليين وبين رئيس الشرطة، حيث يقول الهندي الألاسكي: «عندما نموت نحن، يموت الماضي، ولكن عندما يموت الأطفال، فالأمر مختلف، لأن المستقبل هو الذي يموت، ولا توجد حياة من دون مستقبل». هذه العدمية التي يختصرها الحوار، بدت وكأنها الثيمة الأساس والأهم في الفيلم، رغم كل ملابسات وإشكالات السيناريو ورغم الأسلوب الإخراجي المشوّش، والإيقاع البطيء لمجريات القصة وتحولاتها.