عنوان هذا العرض رغم قطريته ، مجرد جزء من موضوع عام ، موضوع يكاد يكون سمة الدراسات النقدية المنوطة بأدب الالتزام طيلة القرن الماضي ، فمن الصعوبة بمكان أن نحصر عدد الكتب والمقالات التي تناولت القدس في الشعر العربي .
إن أغلب الباحثين، قد درجوا على رصد تلك العلاقة، ابتداء من عام 1948 تاريخ النكبة وبداية الشتات والألم العربي المقيت .
ورغم أننا نميل إلى أن علاقة العربي والمسلم بالقدس، يجب أن يتم التأريخ لها بزمن أسبق من ذلك ، إلا أننا نسجل أيضا عتبا كبيرا على أولئك الباحثين الذين درسوا (القدس في الشعر العربي) دون أن يشيروا إلى الشعر الموريتاني، الذي ارتبط بتلك الأرض المقدسة منذ الأزل ، وظلت حاضرة في النصوص وعند الرواة، والشواهد على ذلك كثيرة، وسنورد منها ما يسمح به الحيز المقرر للعرض .
وكنت اطلعت على قرص (ليزري) أصدرته شـركة عربية باسم القدس، يحتوي على عدة نوافذ، تحيل إحداها إلى نحو مئة وعشرين نصاً شعرياً حول القدس، وكانت صدمتي كبيرة عندما لاحظت خلوه من أي نص شعري موريتاني .
وأعتقد أن هذه التظاهرة التي نقيمها اليوم ، جاءت في وقتها، وهي بما يعنيه موضوعها، تشكل جزء من المساهمة في سبر العلاقة التاريخية بين هذه البلاد وبين القدس والأقصى، حيث القدسية الروحية قبل المقاومة وما تحمله من دلالات قومية واديولوجية .
سيكون هذا العرض مقسما إلى أربعة أقسام ، أملتها المنهجية المنطقية لتناول موضوع (القدس في الشعر الموريتاني ) ، فنحن نتحدث عن فضاء جغرافي اسمه موريتانيا، تم تشكيله السياسي بعد النكبة، لكن ذلك لا يمنع من الحديث عن موريتانيا بمعناها التواضعي، الذي يجعل التسمية القديمة (شنقيط) حاضرة بثقلها في كل موضوع ثقافي مرتبط بنا .
ولأننا ندرك أن هناك عدة أسباب، جعلت القدس بمدلولها الحاضر، تكاد تكون غائبة عن الشعر الموريتاني، السابق لنشأة الدولة الوطنية ، فإننا سنحاول تلمس العلاقة الفوقية لهؤلاء بالقدس كمكان لقصة الإسراء والمعراج، وحضور تلك التيمة في الأشعار المديحية والابتهالية .
وانطلاقا من ذلك، وتمشيا مع الواقع الزمني المتحرك، تكون وحدات العرض مقسمة على النحو التالي :
1 – القدس " المكان" في الشعر الشنقيطي
2 – القدس من النكبة إلى النكسة
3 – القدس لدى جيل النكسة
4 - القدس كرمز و " نص غائب" :
ولأن الحيز المخصص للعرض، لا يسمح بإيراد كل الأمثلة والنماذج المدعمة للموضوع، فإننا سنحاول أن نقتصر على بعضها، ملمحين إلى أن هذه الأمثلة مجرد غيض من فيض، ذلك أن علاقة الموريتانيين بالقدس، لا يمكن أن يتم تحديدها بمكان أو زمان، ولذلك أسبابه التي سنتعرض لها في ثنايا العرض .
1 – القدس "المكان" في الشعر الشنقيطي :
هناك كتاب للفيلسوف غاستون باشلار يدعى (جماليات المكان)، وقد ترجمه إلى اللغة العربية الروائي الأردني الراحل غالب هلسا ، وفيه يحاول باشلار أن يؤكد أن لكل مكان جمالياته ، لكنه يتعمد توسيع المكان بدرجة تجعل (المحارة وسطح الوردة والوجه والصندوق ...) كلها أمكنة لها من الجماليات ما للأرض والسماء ، ولكن المبدعين فقط هم من يستطيعون إبراز ذلك الجمال .
إن رمزية المكان هي المحرك الأول لجماليته ، وانطلاقا من ذلك فإن تتبع القدس كمكان في الشعر الشنقيطي ، سيحيلنا إلى تشريح المكان واستنباط دلالته الرمزية، بحيث نجيب على سؤال ساذج وبدهي : ما الذي يجعل القدس مكانا مقدسا عند الشعراء الشناقطة ؟
إن أي مجتمع يتخذ التعاليم الإسلامية مرجعا أساسيا لكل تصرفاته المادية والمعنوية ، لا بد أن يقدس الثالوث الروحي للمسلمين : (مكة والمدينة وبيت المقدس)، وبغض النظر عن الحنين الدائم عند الشعراء الشناقطة إلى الحج والى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، فإن القدس تتجلى في تلك الحادثة العجائبية التي شكلت تيمة ثابتة في المديح النبوي، وهي (الإسراء والمعراج) ، وهكذا كان لزاما على الشعراء الشناقطة الذين يحاولون رصد معجزاته صلى الله عليه وسلم ، أن يتخذوا من قصة الإسراء منبعا تتولد منه تيمات أخرى كالمسجد الأقصى والقبة والبراق وغيرها من الثوابت، التي حفلت بها القصيدة الموريتانية خلال المرحلة الشنقيطية . يقول محمد بن عبد الرحمن الحسني (ق 12هـ) :
وفي ليلة الإسراء قد بات يرتـــــقي = = إلى أن بدا للنجم من دونه صد
هم الرسل سادوا غيرهم وهو سادهم = = وما هو إلا نيق وهم عقـــــد(1)
ولا ينسى مولود ولد احمد الجواد (ق 13 هـ ) أن يتعرض في (المرجانية) لهذه القصة ذاكرا البراق والسبع السماوات وهي من لزوميات التيمة إبداعيا :
أنت الذي خصه المولى سراه به == ليلا كما خــــصه بالعــين رؤيانه
إذ بات يخترق السبع البراق به = = كالــبرق متخـذا فيـهن ميــدانه
فنال فوق السماوات العلى درجا = = من قاب قوسين ما شان امرؤ شانه(2)
أما غالي ولد المختار فال البوصادي (ق 13هـ) فيقول :
من خصــــه ليلة الإسـرا بمــنزلة = = ما نالها سيد من مرســل وولي
من انتهى منه روح القدس مرتقيا = = حتى رأى الملك الديان عن قبل(3)
وفي القرن (14 هـ) يروي محمد النانه ولد المعلى قصة الإسراء في أسلوب سردي ، مفعم بالفخر الذي يشعر به كل مسلم عندما يتذكر هذه الحادثة المعجزة :
نبي تـرقى في معاريـج رتبة = = يني دونها الراقي ويعيى طلوبها
فأسري على متن البراق إلى التـي = = لها لم تـكن تدعو العبـيد ربوبــها
فجاز الطباق السبع في محض ليلة = = على الشرف العادي أربى نصيبها
فـيا ليـلة فيـــــــها رأى الله ربـــــه = = وأم برسـل الأنبيـــــــــــاء نقيبــها
ومـما رأى فيـها حــدائق جــــــــنة = = مدللـــة حصــــباء در كثيـــــــبها (4)
والحق أن هذه المعجزة الخالدة ستجد امتداداتها في الشعر الموريتاني لاحقا ، لكنها عند الشناقطة تؤكد أن القدس ظلت حاضرة في الأذهان ، حتى وإن كان أغلبهم لم ير أرض فلسطين ، بل وتوفي قبل النكبة بعشرات السنين .
إن علاقة الشناقطة بالقدس، هي نفسها العلاقة التي ربطت بين المسلمين جميعا وبين الأمكنة الثلاثة المقدسة (مكة والمدينة والقدس) ، يقول ما سينيون : "ما من مسلم مؤمن يقبل التنازل عن الخليل، ولا عن القدس خصوصاً، وهي ثالث الحرمين (بين مكة والمدينة)، إن أورشليم القدس هي نقطة تلاقي الإسلام الذي ولد في الصحراء العربية وتلاحمه مع الإنسانية العالية، إنها منطلق وبرهان في صحة مشيئة الله إلى إبراهيم الذي دفع محمداً في أثناء إسرائه في المعراج نحو هذا "الهيكل السحيق"، الذي كان آنئذ حسب تفكيره "محراب زكريا، وقد أصبح فيما بعد المسجد الأقصى، كما أنه سيصبح قبلة الإسلام الأخيرة، ويحل بذلك محل مكة (الكعبة) في آخر الزمان، فلا يمكن للإسلام أن يتنازل عن الأقصى من دون التنكر للنبي"(5).
و مع ذلك لم تستطع العزلة التي كان الشناقطة والموريتانيون من بعدهم يعيشونها ، أن تمنعهم من التعلق بمسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واهتمامهم بالهم الإسلامي كغرض شعري مستقل ، يرومون من خلاله وحدة العالم الإسلامي ، داعين إلى الجهاد بالكلمة والبندقية ومستحضرين الانتصارات الفاصلة في تاريخ المسلمين .
2 – القدس من النكبة إلى النكسة :
بين عامي 1948 و1967 كانت موريتانيا تعيش لحظات مخاض النشأة ، حيث لا زال الاستعمار الفرنسي جاثما على الصدور، وحيث العلاقة بالأشقاء في المشرق تكاد تكون معدومة ، اللهم إلا تلك العلاقة الروحية التي تربطهم ببلاد الحجاز حيث المسجد النبوي ورحلاتهم الحجية إليه .
وتكاد الدراسات العصرية تنعدم في هذه المرحلة ، وكذلك سياسة الانفتاح على الآخر ايدولوجيا وعلميا ، ففي سنة 1948 تركزت المدرستان الوحيدتان لإتمام الدراسات الثانوية، في الضفة اليمنى لنهر السنغال، في بوغى وكيهيدي، ولم تتجاوز التغطية المدرسية في ذلك العام نسبة 16 في المائة، مع أنها مدارس ذات صبغة استعمارية ، وليس واردا أن تساهم في نشر الوعي الثقافي بالنكبة.
وفي العام نفسه تأسس حزب (الاتحاد التقدمي الموريتاني)، وهو أكثر الأحزاب قربا من الإدارة الفرنسية سيرأسه فيما بعد المرحوم المختار ولد داداه.
وفي العام 1958 ولد حزب النهضة، الذي مال أغلب المؤرخين إلى اعتباره نسخة موريتانيا من (الناصرية القومية) .
كل هذه التطورات تجعل الشعور بالنكبة وتداعياتها، أقل بكثير مما سيعبر عنه جيل النكسة وما أعقبها من أحداث، تركت بصماتها واضحة في النص الشعري الموريتاني ، فهذا الشاعر المصطفى بن معاوية التندغي (ت 1979 م ) يكتب مطولة في هجاء إسرائيل ويصف حرب 1973 وما صنعته الجيوش العربية معددا حكام العرب بأسمائهم ، يقول:
دويلة إسرائيل قدما بلا عهد = = وقدما بلا جاه وقدما بلا جهد
إلى أن يقول :
وجاء إلى القدس الحسين وقومه = = لتدمير من قد كذبوا صادق الوعد
دويلتهم هام لها كل دولة = = وهم ذنب أو جيد كلب بلا عقد
وكل يهودي لدى النقد زائف = = فلا هو أصلا في نحاس ولا نقد
إذا ما رأيت الوفد منتسبا لهم = = ترى الذل مضروبا على أوجه الوفد(6)
وهذا صوت موريتاني قادم من ضفة النهر، يستجمع قوى الإسلام، مرتحلا بها من خلال شعره وإيمانه إلى بيت المقدس لحمايته والدفاع عنه ، هذا الصوت هو محمود بن عمر بن صمب با الذي عاصر النكبة والنكسة وحرب الأيام الستة (ولد في كوركول عام 1908 وتوفي عام 1978 ومؤسس مدرسة الفلاح قبل النكبة بثماني سنوات) يقول مخاطبا بني الإسلام :
بني الإسلام خيرَ العالمينا = = وأشبالَ الغُزاةِ الفاتــــحيـنا
نُحيِّيكم ضيوفًا آمـــنيـــــنا = = إلى القدس المقدَّسِ فاتحينا
إلى العلياء هبُّوا أجمعينا
فما في العالمين لكم مثيلُ = = ومجدُكمُ هو المجد الأثيل
وخيلُكمُ الأوائل ترتقيــــنا = = وأنتم خيرُ من يحمي العرينا
جهادًا في سبيل الله سيروا (7)
ورغم أن شعراء الأربعينيات لم تتسن لهم فرصة الاطلاع على القدس نكبة ومكانا ، فإن هناك من الموريتانيين من سنحت له الفرصة بذلك ، وهم أولئك المهاجرون الذين ساهموا في نشأة وقيام دول مشرقية عديدة .
فمحمد الأمين ابن مايابى الشنقيطي كان يزور القدس باستمرار مع ملك الأردن عبد الله الأول ، وكانت آخر زيارة قام بها للقدس تمت في العام 1951 حيث كان متواجدا مع الملك لحظة اغتياله ورافقه إلى مستشفى (الهوسبيس) القريب من المسجد الأقصى وكان ذلك يوم الجمعة 20 يوليو 1951 وظل بقرب الملك إلى أن قضى نحبه وكان محمد الأمين آنذاك قاضي قضاة الأردن. (8)
أما الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي فقد زار القدس والخليل في الثلاثينيات من القرن المنصرم صحبة ملك المغرب الذي التقاه في الحج بالمدينة المنورة .
وهكذا نجد أن الشعراء الموريتانيين الذين عاشوا في المهجر المشرقي، كانوا أكثر تعبيرا عن النكبة وتداعياتها من إخوانهم الذين عزلتهم الظروف ومؤامرات المستعمر، عن الجرح في بدايته الأولى مع النزيف ، يقول الشاعر المختار بن احمد محمود الشنقيطي (عاش في موريتانيا ومصر والحجاز والأردن وتوفي عام 1959 ) :
ذي فلسطينُ بالبـــــكاء تنــــادي = = لبنيها وبالشّـــــــجا والشجـونِ
يا ملوكَ العُرْب الكرام الحقوني = = ثم جدّوا في الأمر كي تنقذوني
إنّـني أمّـكمْ أترضــون لي مـــا = = أنا فيه من امتهـــــاني وهُوني
فصِـــغاري يُذَبَّحــون أمــــامي = = ونسائي من معُصراتٍ وعُون
ليس هتكُ الأعراض عندي بسهلٍ = = في صغاري وفي حريمي المصون(9)
إلى أن يقول مستنهضا همم العرب، ورافضا لكل المناقشات، التي احتدمت بينهم، لمعرفة من هو أولى بالحديث باسم الفلسطينيين :
ليس هذا وقت التــفاوض فيمن = = هو أولى بأن يُولّى شــــــــؤوني
أينَ يا يــعرْبُ الشهامـةُ منكـم = = ثم أين احـــــــتقاركم للمـــــنون؟
أقبِـــــلوا جندَ يعــربٍ لتنالـوا = = ثأركم من شعبٍ خسيسٍ خـؤون
ثم صولوا من الشمائل طـورًا = = ثم صولوا عليه ذاتَ اليـــــــمين
واجعلـوا مــــوعدَ اللقا تل أبيبًا = = ثم هُدّوا ما دونها من حصـــون
موتكـم في هذا السبيل حــــــياةٌ = = إنَّما الموتُ في حــــياةٍ بِهُـــــونِ
أما الناجي بن محمد فال الشنقيطي الذي عاصر النكبة والنكسة، والذي عاش في موريتانيا ومالي والحجاز، فيقول محييا شهداء حرب أكتوبر ، أي حرب الساعات الست التي انتصر فيها العرب :
انْفُضُ غبارَ الحزن واستنشق شذا = = مسك الدّماء على ربى سيناء
ولتمضِ شوطاً في الطَّريق مُظفَّرًا = = وابذل مزيدًا من عزيزِ دماء
خاطِرْ لعـــزِّك بالعظـــــيم تفزْ به = = فالعِزُّ تحت مصارع العظماء
أبني دمشــــقَ إلى الأمام فطالــما = = درج البنون على خُطى الآباء (10)
3 – القدس لدى جيل النكسة :
وهنا يحسن الحديث - في عجالة- عن الشعراء الذين عاصروا النكسة، وتركت في أذهانهم صورة قاتمة عن القضية المركزية ، وهذا الجيل يمكن التمثيل له بالشعراء (العلامة محمد سالم ولد عدود واحمدو ولد عبد القادر وكابر هاشم ومحمد عبد الله ولد عمارو وناجي محمد الإمام ومحمدن ولد الشدو والخليل النحوي ومحمد الحافظ ولد احمدو) وغيرهم.
فالمطالع لديواني (أصداء الرمال) و (كوابيس) يشعر – لا محالة – أن طعم النكسة لما يغادر بعد معجم الشاعر احمدو ولد عبد القادر، وإذا عدنا إلى البعد التاريخي للديوانين فإننا لا نعدم الأسباب الكامنة وراء ذلك، فهو في الديوان الأول لسان حال حركته التحررية، التي آمنت بالقضية الفلسطينية إيمانها بتحرر جميع شعوب المعمورة ، وفي الديوان الثاني نقرأ نوعا من جلد الذات ووخز الضمير ، يقول من قصيدة (حق البكاء) :
ومئذنة القدس واقفة / على قلبها النازف/ ظمأى وحيدة/ يشهد الفرقدان / والله أدرى وأعلم / أن السماء برتها من النور الأزرق / والحب الأكبر/ وأن تلاوينها لم تزل/ تقاسيم تصدع بالحق (11) .
أما الشاعر كابر هاشم فهو الذي بدا متمردا، منذ أول قصيدة نشرت له في جريدة الشعب (معرض الأصالة)، العدد 143 بتاريخ 16 دجمبر 1975 والتي يقول فيها :
ظن قوم أن الشعوب خراف = = تتثاغى أمام نطع المجازر
تسلب الجلد كي تكون غذاء = = أو عشاء أو وجبة للعساكر(12)
وبالنظر إلى اديولوجية الشاعر، التي ظلت تحكم شعره طيلة ثلاثين عاما أو أكثر، نجده في ديوانه الأخير (حديث النخيل) يحكي عن الأقصى حديثا يخاله المرء تصويرا لواقع قبة الصخرة اليوم ، يقول في المقطع الأول متن قصيدة (موعظة في ثلاث شعب) :
جلى هي الزورة الميمون طالعها = = جلى منافعها .. جلى منازعها
جاءت وامتكم ثكلى مفجعة = = قفر مرابعها .. وخم مراتعها
آه .. و واه .. وواحرباه .. وا أسفي = = قريظة الذل تستشري مطامعها
يا للعروبة ديس المجد واغتصبت = = مآذن القدس واستبيح جامعها (13)
ويذهب الشاعر محمد عبد الله ولد عمارو إلى أبعد من ذلك، عندما يستخدم تقنية النص الموازي من أجل أن يزيد في هجائياته المعاصرة للزمن العربي الرديء ، بحيث ظهرت عناوين النصوص منبئة عن مضمونها وغرضها ، كل ذلك بلغة منتقاة من قاموس الغضب والخراب ، يقول في المقطع السادس من قصيدة الجزيرة :
حديقة يعرب نجم (مسدس)/ وترفع مئذنة القدس/ الله أكبر/ الله أكبر/ ثعالب حيفا هرير/ عواء/ سعالي تلابيب رعب وذل . (14)
ويزداد الأمر مرارة في قصيدتي (ختان شارون) و (قراءة في كف أبي الهول ) .
أما الشاعر محمدن ولد اشدو فيكاد ديوانه (أغاني الوطن) أن يشكل وثيقة ثورية ثانية تضاف إلى نقس الرف الذي وضعت فيه أصداء الرمال، ولأن لنا كل الحق في تحديد الوطن الذي يغني له الشاعر، فإننا نعتقد أنه أكبر وأشمل من مفهوم القطر الواحد والذي قد يقفز إلى ذهن المتلقي قبل الغوص في ثنايا الديوان.
وتستوقفنا في الديوان قصيدتان نكتفي بالنص الموازي لإحداهما وهي بعنوان : (القضية الفلسطينية في باريس) حيث يقول في استهلالها :
" في يوم 9 يونيو 1967 دخل طالب عربي مقهى في الحي اللاتيني، وطلب من النادلة كأسا تطفئ غلة عطشه وعار هزيمته... أحضرت النادلة الشراب، توسمت من سماته أنه عربي فقالت : أعربي أنت؟ قال: نعم ، فأراقت الشراب على وجهه" (15) .
وأما القصيدة الثانية فهي : (الأرض السليبة) ، وفيها يستغبط الشاعر كيف أن الحجارة استطاعت هزيمة الجيش الذي لا يقهر.
ويبدو الشاعر ناجي محمد الإمام أكثر تفاؤلا بالمستقبل من بقية زملائه، فرغم الصورة التراجيدية التي يرسمها للحالة العربية إلا أنه مؤمن بأننا (سنبقى ويمضي سوانا)، يقول :
هيا نقاتل/سترى غانيات يهوذا يبعن قوارير/من شعرنا العربي حجابا/وخيلا عرابا/تقل كلابا/ومردا شبابا/تسام عذابا/وبيضا كعابا/ترام اغتصابا/بأورشليم تباع/بروما تراع/وقد عاهدوك/وكم واعدوك/وهل بعد ما في الكتاب بيان/ألا ليس بعد زمان "البيان"(16) .
إن جيل النكسة في موريتانيا ظل عاجزا عن الهروب إلى الأمام ، فرغم بعد المسافة بينه وبين لحظة الهزيمة، إلا أنه ظل مشدودا بخيط رفيع نحو القدس، فتكاد قصائد الغزل عنده أن تتحول إلى ملاحم، تحكي قصة جرح عصي على الالتئام .
4 - القدس كرمز و " نص غائب" :
من مميزات النص الشعري الشاب في موريتانيا، أن أغلب أصحابه يفضلون عدم ذكر القدس، خوفا من أن يعتقد المتلقي، أن القضية الفلسطينية مختزلة في قضية الأقصى وحسب، ولذلك دلالته العرقية والاثنية، وما تمثله فلسطين من أرضية لتلاقي الحضارات والأديان.
ومن ثم فإن معظم قصائدهم، جاءت حبلى بالحديث عن الجرح العربي والإسلامي بصفة عامة، بحيث أن الحديث عن النكبة الشاملة، يحيل مباشرة إلى القدس مثلما يحيل إلى غزة والضفة والجليل وجنين وغيرها من بقاع سليبتنا الغالية .
إن الشعراء الموريتانيين الشباب، شأنهم شأن شعراء ما بعد النكسة في الوطن العربي ، لم تعد مسألة التصريح بالقضية مطروحة، وإنما اتجه الشعراء إلى اتخاذ تيمات محددة، لها صلة الترميز بالقدس وقضيتها، وهو نمط من التجريب، يعتمد الانزياح والتكثيف، بحيث إن تلك الرموز تكشف عن مستوى جديد، من فهم الصراع وتداعياته، فشعراء التجريب هؤلاء تحدثوا عن حق العودة، وعن الفقر الذي يلازم المبعدين، وعن المخيمات والحياة اليومية للاجئين، وهي مواضيع جديدة على الشعر الممحض للقضية .
فمحمد ولد عبدي – مثلا- يكثف رمزية الغربة والحنين في قصيدته (جفرى)، فهو المتغرب عن وطنه، لا يجد تعبيرا عن مرارة الغربة، أكثر من قصة (عامر)، وهو شاب فلسطيني في الخامسة والعشرين من عمره، تعرف عليه الشاعر وامتدت الصلات بينهما فترة من الزمن .
وكانا كلما التقيا، يغني (عامر) موال (جفرى) ، ثم يتحدثان عن الشعر وعن (طرفة ابن العبد)، وكلنا نعرف إن طرفة توفي في عمر قريب من عمر الشاب الفلسطيني هذا ، ويتمتم (عامر) بالعامية :
يا ظريف الطول وكف تاكولك / رايح للغربة وابلادك احسنلك (17 )
وبعد فترة يستشهد (عامر) في جنين، فيتذكر الشاعر كلماته الأخيرة في مقهى جمعهما ذات يوم :
هل تعرف معنى أن تعشق في الأرض المحتلة/ قلت : ثقيل/ فالحب بلا معنى إن غاب المحبوب/ والمحبوب بلا ذكرى إن غصب القلب/ وأنت/ تخوفت عليه ولم اقصد إلاي .
ويذكرنا المختار السالم احمد سالم بقول نزار قباني :
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي = = أشكو العروبة أم أشكو لك العربا (18)
وذلك عندما يحاول أن يفصل بين مقومات الذات العربية التي تربى عليها، وما تحيل إليه من أنفة وكبرياء وبين حقيقة العرب اليوم، وهو بذلك يقيم حوارا تقليديا بين صرختي (وا معتصماه) و (وا قدساه)، يقول من قصيدة (ختم رسالة القدس إلى عمورية) :
القدس أقربُ أهلا من عمورية = = لم نحم نحن لها عرضا ولا عنبا
بغداد أقربُ دارا من عمورية = = أسوارها انتهبتْ والكبريا انتهبا
لا تطلبوا الغرب بعضا من سلامتكم = = فلن يفيد.. ولكن عربوا العربا(19)
وتعطينا هذه الأبيات نفسا جديدا في تحليل سيكولوجية الشعراء الشباب، بحيث تؤكد نصوصهم الشعرية أن الجرح يولد الجرح، فاستذكار القدس يحيل مباشرة إلى عدة طعنات في الجسم العربي الواحد، القدس إذن هي بغداد والخرطوم والجولان والصومال وافغانستان والبوسنة والشيشان وغيرها .
وتشكل قصيدة (صلاح الدين الجديد) للشيخ جاكيتى سك (20)، إحدى أهم محطات الرمز، المتكئ على الانزياح في تحديد المعنى الحقيقي للثورة، وتحرير القدس، وهو بحث عن تجربة جديدة في التحرير، لا تعتمد على الأرصدة الفكرية السائدة، فليست القدس ملكا للمسلمين وحدهم، ومن ثم فليس بالضرورة أن يعتقد البعض أحقيته الوحيدة في الدفاع عنها.
إن صلاح الدين في هذا النص، مجرد من عمقه الرمزي والتاريخي، فهو يمثل حالة مناقضة للواقع اليوم، ذلك أن قدسية فلسطين، ليست محصورة في المسلمين وحدهم، فهي ملتقى لحضارات متعددة، ولربما أنجبت (صلاح الدين الجديد)، لكن ميزة هذا النص أنه يمكن أن يقرأ من زاوية تأويل النص الغائب الذي تم استدعاؤه، فيعطي صورة مغايرة لتحليلنا، وتلك إحدى خصوصيات نظرية القراءة والتأويل، في البنيوية المعاصرة .
فبالنظر إلى التشكيل البصري للنص، يمكننا أن نستنتج أن كل ما أورده الشاعر من صفات غير مألوفة لصلاح الدين الجديد، هو لغرض التهكم من أولئك الذين يعتقدون أن تحرير القدس، يمكن أن يحدث من غير المسلمين، ولهذا فمن الضروري في مثل هذا النوع من النصوص، أن ينتبه الناقد لدور أدوات الترقيم وتوزيع الكلمات على الصفحة وهو ما ندعوه بـ (التشكيل البصري) .
لقد كان بودنا أن يكون حجم المساهمة، متسعا للحديث عن أسماء شعرية، لها بصمتها الراسخة في الدفاع عن القدس بالكلمة والموقف، كما أننا ندرك أن جيل الشعراء الشباب، هو من جعل القضية غرضا شعريا قائما، وبالعودة إلى دواوينه تتسع الفكرة أكثر، لكن ذلك الجيل يحتاج إلى عرض منفرد، خصوصا وأن له من تقنيات القول الشعري، ما لا تتسع له ورقات قليلة كهذه .
الشيخ ولد سيدي عبد الله