إعلان

قصص لا تفيد شيئا في هذه المرحلة (1) / الدهماء ريم

سبت, 04/13/2019 - 06:42

التَّسمم الغذائي 
.............. 
خرجتُ للتَّو من تسمم مُزعج، سبقه تسمّم حاد، سبق ذلك تسمّم مدبَّب، وهي الحالة الثالثة في غضون شهرين، معركة غير مُتكافئة التحدي مع الفيروسات والبكتيريات، واستنزاف بدني،..

 يصعب عليَّ  مع التّكرار اقتناص المُسبّبات، أتذكَّرُ فقط أن كل السوائل تضغط بشوكة الألم للمرور عنوة من المعابر الحدودية للجسد، كاللاجئ المذعور.. تريد المغادرة في فوضى. 

 أُنزِلُ ذاكرتي في فخِّ الحنين، أُفتِّش عن المناعة التي كانت!.. كيف هَجَرتني؟ .. 
أُسابقُ اليوم وَهْمَ الوعي الصّحي لَعلِّي أحمي منه بقيَّة مُدّخراتي من المناعة،
كيف أرمّمُ ما اتلفْتُ من مناعة وأصالحه مع ما تبقَّى؟

ربما أجد التفسير في أنَّ هَوسَ النَّظافة أعطى مفعولا عكسيًّا،.. فبقدر ما نتخيَّله يحمينا، بقدر ما يُتْلفنا مع الَّزمن،.. قشور تَحضُّر واهية!. 

جرفني الألم، وحملني عبر سرداب السِّنين إلى حيّنا الهادئ، مسقط قلبي، لكصر القديم، عصابة أطفال متواطئة، مُتناغمة، من شتَّى ثلاث وأربع من بنات الأغنياء والمُعدِمين، لا نَتفاوت كثيرا في عموم الأشياء، اللهم إلا العِرْق واللون. 

من بين تلهِّينا المفضل خلال ساعات الفراغ الممطوطة، نبش قمامة "انْصاره"،.. والقمامة حينها كانت "بنت ناس"، وليست فائضا ممقوتا من فواضِل كَنْس الأتربة والأوساخ كحالها اليوم، كانت معدنًا طازجًا يحوي كنوزا مُغريَّة،.. قضمة فاكهة، شريحة خبز مُحمَّص، بقايا عَجَّة بيض، قطعة جبن.. لا تستنكف الشهية من شيء، نتناول كلّ ما يصلح للبلع، على مزامير الذّباب وإيقاع قهقهة تخومها بريئة،... ومع ذلك لم نمرض... هذا داخل الحي.

خارج الحي والحكمة، نرفع متعة الطقس الترفيهي، فنُنَظِّم طلعات باتجاه المطار القريب جدًّا منا، في أيام معلومة، أيام رحلات الخطوط الافريقية و "إي تي آ" القادمة من فرنسا،... وعند حافة السور، حيث المكب الرئيسي، الجنَّة ونعيمها الغذائي في شكل قمامة "اكْلاَسْ"، مستوردة رأسا من أوربا.. غالبا لا يُنهي الركاب المرفَّهون أطباقهم،.. تفوح رائحتها في إغراء يحرِّض على تذوقها،  حتى أكياس "لبتون" المستعملة لا نُعْرِض عنها، نمتصها،.. ولم نتسمَّمْ يوما... هذه البراءات لا تتوفر لجيل اليوم، المُحافَظ عليه أكثر ممَّا يستحق رغم رداءة صناعته.. 
تردَّت القمامة دراماتيكيا إلى رتبة "امْباليت"، وقد كان اسمها  Poubelle  تنحتها كهلات لكصر في لفظة "إبُّو- بَلْ" وهي فعلاbelle  .

كان من عادة الأسر في لكصر، أن يقيم معها مدرّس قرآن، وكان حظنا في عابدة من "أولاد أبيري" تدعى أمينة، تمتلك شخصية مُصَفَّحة، وقد منَّ الله علينا بأنَّها لا تفوّت البادية في الخريف،.. خلال عطلتها ننتقل لمُعلِّمة بديلة، نتكدس في خيمتها، سيدة مُسنَّة تدعى "المرحومة"، تقيم قرب حي "آسكنا”، في رعاية الأسرة الكريمة "أهل افْرَانْسوَا"، أسرة من وجهاء لكصر،.. 

أشهر الدراسة على "المرحومة"، مُتعة من مُتع السياحة الغذائية، والفوضى اللذيذة.
 في الصباح تحت خيمتها، نتعثر في رتل من الأواني، تحوي عشاء كانت قد بَعثتْ به الأسر المجاورة لها، "إكْوَرْ" و"بيظان": كسكس، مافَ، امْبَخَلْ..،  ننهي "كِتبتْ" الصباح وننقضّ على تشكيلة الطعام البائت، وأحيانا "امْقمْلل"، نتنازعها، نعبث، نشبع.. وفي المساء تُنعشنا ب"بِرْقاله"، في قدح منزوع النظافة، تحركها غالبا بأصبعها الذي تلبَّد عليه سُخام "النِّيله" منذ سنة..، تسقط فيها المسبحة، تمتصها لتسقط ثانية بعد لحظات، نرتوي، نتجشأ،.. نغمس في بقية "البرقاله" بقايا خبر يابس، ملون بالفطر الأخضر أحيانا،... والصحة بخير،.. صفر مرض...

أعود للبيت،  أحكي لوالدتي التفاصيل المُقْرفة، مُبَهَّرة ببعض توابل المُبالغة لعلها تَفُكُّ ارتباطي "باللَّوح" فأستريح،.. تُغمض عينيها اشمئزازا ، وتكرر بالولفية "تْشَامْ بايْ"،  والوالدة من خلائقها التقزز بحكم خلفيتها: une Saint Louisienne ، تتنفس النظافة مع الأكسجين،  لكن ضعف حصانتها المعرفية، يجعلها تنساق وراء وَهْمِ التَّبرك المُعشعش في ذهنها، تُسَفّهُ الخُرافة الطَّبع، فتتغاضى عن بعض قوانينها الصّارمة، مُقابل أن تُسَوِّرني أوساخ "لمرابطه المرحومة" بالبركة كلَّما ابتلعتُها..!. 

في الإعدادية رأيتُ البراميسيوم، والمكوّرات المعويَّة تحت المجهر، وبدأتْ رحلتي الواعية مع الهوس بالنظافة، والذّعر من الوحوش المجهرية المستوطنة لمحيطي، تجاوزتُ سقف نظافة الوالدة، استسلمتُ لمعقمات الأكل، وتآلفتُ مع تفاهات المُنظِّفات الكيميائية،.. 
سحبت نفسي تدريجيا إلى عالم مُخادع، ظاهره النظافة وباطنه تدمير المناعة الفطرية،.. 
أصبحتُ حجَّة في الثقافة الصحية بين أقراني،.. استبسلُ في توزيع النصائح الصّحية مجانا على محيطي حتى الإصابة بالضَّجر.. أغطِّي بذلك شغفًا مدسوسا بحُبِّ التَّوعية.

مارستُ "الأستذة" الطبيَّة مرَّة على ابنة عمَّتي، محدودة التعليم العصري، وهيَّ في وضعية تَضاعُف بيولوجي،.. كانت ضحيَّة مريحة، لكونها مذعنة وتمتلك خزانا من التساؤلات المُلتَبسة يُشبع غروري، فأهيل عليها من الشفقة والوصفات بفوقية علمية تطمر فضولها،..  في كل زيارة لها للبروفسير "حِمِّين"، تَبُثُّ له على " أفْ أمْ" ثرثرة عن حالتها، من ضمنها نصائح الدهماء ووصاياها الصّحية،..و في إحدى الزيارات وقد تقدَّمت بها الشهور، ذكرتْ له أنها استخدمتْ أقراصَ حديدٍ وحمض فوليك بتسمية مُغايرة للَّتي مَنَحها، سألها: وصفها لك طبيب؟، فأجابت: بل وصفتها لي الدهماء،.. قال لها: برافو، هيَّ انتقلتْ من طور النصيحة إلى طور وصف الدواء، هذه السيدة خطر عمومي، يجب توقيفها فورا.

أتمنى اليوم أن أقترض من الماضي بعض المناعة الصَّخرية، .. التسمم البدني يظل أرحم من التسمم الذهني، الأذهان اعتلتّْ هيَّ الأخرى.. لديَّ بقايا من أقراص "افلاجيل".. هل من خدمة؟