عشرون سنة مرت على رحيلك.. ما كان أثقل وطأتها وأصعب تحملها.. لم تغب فيها لحظة، وكيف تغيب وكل ما مررنا به من بعدك من أحداث جسام في بلدنا ومحيطنا يذكرنا بك، ويحملنا على تفقدك، ويرغمنا على أسف متجدد لغيابك..
أذكر قبل رحيلك عندما أخبرتك بالشروع في طريق نواكشوط – نواذييو التي فتحت بلادنا على جوارها الشمالي، فقلت لي: «إنه الانتقام التاريخي من تأسيس سان لويس في القرن السابع عشر»، وقد لخصت في عبارة دقيقة ومختصرة المشروع الاستعماري الذي هدف إلى فصل هذه البلاد عن محيطها في المغرب العربي بقدر ما أراد في الوقت نفسه أن يقطعها عن محيطها الإفريقي من خلال إيجاد قلعة عازلة للتحكم على حدودها الجنوبية.
أذكر اهتمامك المتزايد في سنوات عمرك الأخيرة ببلاد الساحل أو السودان حسب التسمية القديمة، أيام إقامتك السعيدة في مدينة تنمبكتو بين المخطوطات العتيقة، وكنت شديد الابتهاج في عزلتك حيث لا أحد يعرف اسمك كما كنت تقول، لكنك بحسك الاستراتيجي الثاقب كنت قلقا على مالي ومستشعرا الخطر المحدق باستقرار المنطقة قبل سنوات من انفجار الوضع وانهيار الدولة واتساع الفتنة.
كنت ترى بعين المؤرخ الموضوعي، وذوق الصوفي المتبصر، أن الطرق الصوفية التي حفظت السلم الأهلي في هذه البلاد، ووطدت الصلة بين أبنائها، هي القادرة على حماية تلك المجتمعات من التفكك والضياع.. وكنت تحدثني كثيرا عن شيخ الشيوخ العلامة الأجل الشيخ سيدي المختار الكنتي وابنه وخليفته الشيخ سيدي محمد، وتشرح لي كيف استطاعت الزاوية الكنتية دفع مشاريع إصلاح سياسي وفكري ممتدة إلى بلاد شنقيط وكل منطقة السودان الغربي إلى أواسط أفريقيا..
ومع أن رحيلك سبق أحداث 11 سبتمبر 2001 بشهور قليلة، إلا أنك كنت ترى بعين البصيرة الخطر المحدق بالأمة والعالم من جراء التطرف والغلو، وتقول لي إن مشكل الغلاة هو ادعاءهم القدرة على الوصول إلى النص دون وساطة المذاهب العقدية والفقهية التي توافق عليها المسلمون عبر قرون من التدوين والتأويل.. فينتهون إلى تحويل أوهامهم وتنطعهم إلى سلاح مسلط على المسلمين قبل غيرهم..
كنت أعرف فيك الاهتمام الفائق بالسيرة النبوية، وأعرف اطلاعك الواسع على كتابات المسلمين والغربيين حولها، وكنت تقول لي في ملاحظة دقيقة إن أفضل رد على الغلاة والمتطرفين هو قراءة السيرة النبوية والرجوع إلى هدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الخلق..
لن أذكر الكثير من الأحداث المضنون بها على غير أهلها، وقد سمعتك مرارا تستشهد بقولة أحد أقطاب التصوف إن في الكلام ما يجب أن يطوى، وكنت تستطيب البيت المشهور :
وإياك ذكر العامرية إنني أغار عليها من فم المتكلم
بل إنك ضمنت هذا البيت في صفحة إهدائك في أطروحتك الرائدة حول الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر، وقد سألك أحدهم عن المقصود في هذا البيت فأجبته أن البيت يشرح نفسه..
أعرف كيف كنت في سنوات عمرك الأخيرة تستعجل الارتقاء إلى عالم أنسك الجديد، وكنت تستشعر مباهجه وألطافه، وتنظمه في شعرك الخفي.. ذلك ما يعرفه أصفياؤك الذين كنت تختص بصحبتهم وتصطنعهم لنفسك وتطلعهم على حصن أسرارك، وإن توهم الآخرون أنهم أقرب أصدقائك.
في لحظة الذكرى، لا أتمالك عن استحضار هذه الجملة من حديث المسعدي في روايته «حدث أبو هريرة قال»، وقد حفظتها منك، وهي صادقة فيك:
«كان أبو هريرة كالماء يجري. لم نقف له في حياته على وقفة قَط. كالمستعد إلى الرحيل لا ينقضي عنه الرحيل».