إعلان

في سُدفة المعنى، وعلى عتبة النور

جمعة, 06/27/2025 - 19:29

كبرياء رجل

 

مطارحة ترتجفُ حروفها في حضرة نصّ “في ظلال الحروف” للأستاذ المفكِّر المختار السالم

ما كنتُ – وربي يشهد – أهلًا أن أرفع بصر قلبي إلى مقامٍ ترفرف على شرفاته نُسور الحرف،

ولا كنتُ من زُمرة أولي الفصاحة الذين إذا جلسوا إلى البيان، تلعثمت في حضرتهم القوافي.

لكنها الدهشةُ، يا سيّد المعنى، هي التي أغرتني بأن أستلّ قلمي من غمد الخجل،

وأن أمضي – على استحياءٍ – إلى محراب نصِّك، أخلع نعليَّ التطفّل عند بابه،

ثمّ أُصغي، لا كما يُصغى لكلام، بل كما يُصغى لوحيٍ تسلَّل من أفقٍ لا تُبلغه أجنحةُ الإدراك.

قلتُ – وقد تدلّت حيرةُ اللغة من خاصرة قلبي – لسيد البيان إذ استوى على سنام الحرف وأوقد فيه شعلة الرؤيا:

أأنتَ من سحب الغيم من شَعر المعاجم، وسقاهُ على وِهاد المجاز حتى أورق؟

أأنتَ من سلّ فأسَ الأسئلة على صخرة الزمن، فانبجست من مجراها ينابيعُ المعنى؟

أأنتَ من ربط أطراف اللغة بحبال التأمل، ثم أطلقها طيورًا تحومُ فوق رُبى الفكر؟

أم تراكَ شققتَ للمعنى فمًا، وللدهشة مئذنة، وللصمت منبرًا، فشهقت الحروف إذ نطقت على يديك؟

قال، وصوته يُشبه هدير المعنى في شقوق الكهوف الأولى:

"الحرفُ ليس زينةً لنُدُب الذاكرة، بل سوطٌ على ظهر الوهم،

وليس قشرةَ تفنُّن، بل نخاعُ المعنى حين يصرخ في عصب العالم.

من ظنّ أن اللغةَ ترفٌ، لم يعرف كيف تتقطّر الأرواح من ثقب المجاز،

ومن ظنّ أن النصَّ مأدبةُ عقلٍ فقط، لم يتذوّق جوعَ القلب حين يكتبُ مَن تحرّقت فيه التجربة".

قلت: "فما بال أولئك الذين يبكون الدخان، ثم يلعنون النار؟

يحتجون على المجاز لأنه لا يُطعم،

ولا يعلمون أن الخبز وحده لا يكفي إذا جاع الوعي؟

أنّى لهم أن يطأوا دروب الفكر وهم ينكصون عن سُلم البلاغة؟"

قال:

"أولئك قومٌ أرادوا أن تُنبت الأرضُ سنابل دون أن تُحرَث،

وأن يضيء الليلُ دون أن يختبروا عتمته.

ما دروا أن الجمرة التي لا تحرق، لا تُضيء،

ولا علموا أن المجاز، إن نضجَ، كان أصدقَ من سطور الوقائع المتيبّسة".

ثمّ مدّ يده إلى خرائط اللغة، وقال:

"حدّثني عن أولئك الذين اعتزلوا المجتمع هروبًا،

كأنّ الطهر لا يسكن إلا في الصوامع،

وكأن الحكمة تأنف من العَرَقِ والبشر والطرقات.

ما علموا أن المدن تصنع الفكرة،

وأن صخب الأسواق أولى من صمت الأديرة،

وأنّ من لم يعرف مجتمعه،

ظلّ حبيسَ ذاتٍ تُهندس له الوهم كرامةً، والفراغ فكرًا".

قلت: "وما بالُ أولئك الذين يُدمنون السؤال،

لكنهم يرتعدون حين يُطرق باب الجواب؟

يسكنون في (لعلّ)، ويخافون من (قد)؟"

قال:

"همُ الذين اتّخذوا الحيرةَ دثارًا،

فألفوا دفأها، وهابوا نور اليقين.

أما الذي سكنه السؤال صدقًا،

فحين يقول (لست أدري)،

يرتعدُ له سقف الحقيقة،

وتُضاء من حوله مجرّات الفكر".

ثم أنشد بصوتٍ لم يكن شعرًا، بل كان جمرًا من المعنى يتهادى على لسان النار:

"من لم يُصغِ لوجع الجغرافيا، خانَه التاريخُ حين أدبر!"

فانحنيتُ، لا للكلام، بل للحقيقة حين ترتدي جسد الحرف،

وللمعنى حين لا يُقال، بل يُضاء.

وانثنيتُ أرتّق خروق القلب التي أحدثها هذا النصُّ،

وأُعيد ترتيب يقيني كما يُرتّب النحاتُ صمته حول تمثالٍ من ذهب.

أما بعد...

فما هذه السطور التي خططتُ،

إلا لعثمةٌ في حضرتك،

ونُثارُ تلميذٍ أذهله الضوءُ، فحسب أن الظلَّ هو اللغة.

وما أنا فيه،

إلا نَفَسٌ بين أنفاسك،

وخيطُ مدادٍ انسلّ من نهر بيانك،

لا ليُعارض، بل ليتمسّح بالحروف، رجاء أن يصيبه من رذاذها شيء.

كامل الانحناء

وأقصى الامتنان