إسلم بن السبتي
عرف العرب منذ القديم خيمة الوبر، ميزت مسكنهم، وأظهرت بداوتهم مقابل أهل الحضر في المدن القديمة. وكانوا يبنون تلك الخيام، فيقال : مضارب القوم، وحللهم. وقد امتلأت البادية بتلك المضارب، تدب فيها الحياة ، فيتجول القوم، وتتحرك أنعامهم، صهيلا ورغاء وحمحمة.
وقد حملوا خيامهم أينما حلوا وارتحلوا، فتراها مكومة على ظهور العيس وهم في ظعنهم يزفونها بحثتا عن الكلإ والمرعى. وحينما يستقر قرارهم، تُضرب تلك الخيام في أماكن عالية تقيها من السيول، وإن بنيت في موضع منخفض، حفرون حولها حفيرا يقيها تلك السيول الجارفة ويعرف ذلك الحفير في مصطلحهم بالنؤي.
أحب العرب خيامهم، وصارت جزءا من تراثهم الحضاري والفكري، فأطلق بعض العلماء بعض مكوناتها على علم العروض كما هو معلوم عند صاحبه الخليل بن أحمد الفراهيدي، حيث استعمل مصطلح : الأسباب، والأوتاد، على مكونات التفعيلة التي هي أساس الوزن ضمن الدوائر الخليلية.
إن تراث الخيمة كما عرفناه عند أسلافنا، ظل ماثلا في حضارة أهل شنقيط، سكنوا فيها وحملوها على إبلهم، وبنوها في أماكن رعيهم. ومن هذا المنطلق شعرت بأن تدوينه يعد مشغلا مهما من مشاغل حب تراث هذا البلد الساكن في خلدي.، وهو تراث بدأ القوم يهجرونه بحكم التقري الذي غزا البلد في هذا الزمن، وبدأ الجيل الجديد، يبتعد عن تلك الفترة الجميلة التي قضاها أسلافه وهم يرحلون بحثا عما كان يبحث عنه آباؤهم من العرب في الجزيرة العربية.
وحِفْظا لهذا التراث كما قلت أحببت أن أدون رحلة أهل بلاد شنقيط مع "خيمتهم" التراثية المكونة من الشعر، والتي استبدلوها في هذا الزمان بالخيمة المكونة من اللباس الجديد، والأسمال البالية :" الشراويط".
حياكتها :
إن صناعة الخيمة الشنقيطية العربية هي كما صنعها الآباء والأجداد، فقد كانوا يجزون شعر الإبل ويجمعونه، ثم تبدأ النساء في عملية تعرف بضرب ذلك الشعر(التمدريس) بدبوس صغيرة(المدراسة)، ينثرون عليه الماء حتى يسهل ضربه، وحينما يتم ذلك يأخذون(المغزل) ويغزلون به حتى تجتمع الخيوط في(كبة) ، ويصنع منها (الممحط)، ثم يغسل ويترك في الهواء معرضا لأشعة الشمس حتى ييبس، ليكون جاهزا للعملية الموالية. ثم يبدأون بصناعة ما يسمى ب(الفلجه، جمعه : لفليج) وب(الحلالة)، وأثناء حياكتهم، يستعملون (الصوصية) لتسوية الخيوط. يستمرون في ذلك العمل مدة حتى تجتمع عندهم ما يكفى لصناعة الخيمة، وهو خمسة من الفلجه (افليج الحمار، والعنكه، هم في الوسط، وافليج العرظ، والخرطه، والمطمبه، هذا في الركبه، أما في السهوة فنفس الفلجه)، وحلالتان، ثم يقومون بخياطة (الفلجه) حتى يكتمل العدد، ثم يكفونه بالحلالة من أمام ومن خلف. ويجعلون ما يعرف (بالخراب) في نهاية (افليج الحمار)، وهم الظهورة، وتعدادهم أربعة، اثنان في كل جانب، و(الخوالف، مثبتة في الحلالتين) وهم أربعة كذلك، اثنتان في المقدم، واثنتان في المؤخر، وفي المقدم(المطمبه)، وتزين الخيمة ب(الطارات) حيث تثبت عند الباب على اليمين، وآخر على اليسر، ويرفع (طمب) الخيمة ليدخل الشخص مرتاحا. كما يزين مكان (الحمار) بخيوط بيض تميزه عن غيره.
والعمل في هذا كله يقوم ضمن عملية ما يعرف(بالتويزة) وهي عملية تعاونية وتضامنية بين القوم لخياطة الخيمة وغيرها مما يتطلب عملا تعاونيا عند مضارب القوم.
وحينما تتم هذه العملية، يحيطونها بما يسمى (بالكْفَ، الكفيه)، وهو ما يستدير حول الخيمة ليقيها الرياح من جوانبها، فهم ينزلونه كل ما هبت الأمطار والرياح، فلا يشعر من بداخلها بأي أذى تسببه تلك الظواهر الطبيعية.
ولبناء الخيمة لا بد من شد جوانبها بحبال قوية، تجعل في(الخراب) وتشد إلى الأوتاد التي تمسكها، ثم ترفع إلى الأعلى، بعد أن يوضع(الحَمَّار) في وسط (فليج الحمار) الذي يتوسط بدوره الخيمة، ثم ترفع بما يعرف (بالركايز) التي توضع كل واحدة منهن في عين (الحمار)، وبعد ذلك ترفع عاليا مستقيمة، شامخة شموخ العربي الذي صنعها، وأعزها فحمته من شدة الرياح، ونزول المطر، ولفح الشمس، والبرد القارص.
ومن عاداتهم في أن الخيمة (تفازى) كلما هبت رياح عاتية، حتى لا تطير بها فتتشقق، وتفسد.
وهذه الحياكة الشنقيطية تعطي للخيمة دلالة تراثية عميقة في حياة البدوي، بل الموريتاني بعد ذلك في حياته الحضرية، فهو منفتح على كل الأمور، يكره الانزواء، والانغلاق على النفس، وهو لا يسد بابا ، يثق في كل أحد، ديدنه الانفتاح، وحب الأماكن المتسعة.
محتوياتها :
تضم الخيمة كل متاع أهل البادية، كالحصائر، و(الفراو، جمع : فرو) وهي تلك المكونة من الجلود، يلبسونها قديما، وقد بدأت في الانقراض، إن لم تكن انقرضت فعلا. وفي أحد الجوانب يضعون ( آمشقب) وأعلاه (التيزياتن) وفيها تحفظ المؤونة، من ميرة يمتارونها قبل ذهابهم إلى البادية. وأغلبها زرع، وتمر في وعاء من الجلد يسمى(الشنة، أو البدعة). كما يحمل (التاسوفره) التي تجعل فيها أدوات الشائ من سكر(القالب)، وأكواب(الكيسان) التي توضع في (الكونتي)، والشاي نفسه(الوركه) الموجود في (أشكفل).
وفي مكان ما من الخيمة يودعون وعاء السمن في ما يعرف (بالعكة)، يستعمل للإيدام، وهو يستخرج من زبدة الغنم، التي تسخن في وعاء وبعد غليها يجعل عليها بعض الدقيق، فيطفو الدهن عاليا وينزل الدقيق. ويعرف عندهم بعيش (الذوابة).
وفي جانب آخر تأخذ أواني اللبن مكانها، وهي على التوالي : (التاديت، وإشكيم، والطازو، ولكدح) وكلها مصنوعة من الخشب. ثم( الشكوه، والركوه) لصيانة اللبن ومخضه في الأولى وحفظه في الثانية.
ملحقاتها :
وعلى جانب الخيمة ينتصب (الرْحَلْ) وعليه ترتفع أوعية الماء(الكْرَبْ، جمع : كربة) وهي القربة الكبيرة، أو (تيقط) للصغيرة، وهذه قد يستعملها البدوي(راعيا كان، أو شخصا بسيطا) لحمل الماء على كتفه. كل ذلك مصنوع من جلد الغنم، الكبيرة منها والصغيرة. في عملية تراثية تقوم بها المرأة، لتصلح قربها لحفظ الماء، بعدما تحمله (الرواية، تتكون الرواية من مجموعة من الجمال، أو الحمير تحمل القرب المملوءة ماء، وهي تكفى أهلها فترة من الزمن، تطول وتقصر حسب استعمال القوم للماء الشروب.) من المكان البعيد الذي يستقي منه القوم. والحفاظ على هذا الماء من أوكد الأمور عندهم، لأنهم يأتون به من بعيد ومن أماكن قد لا يسهل الحصول على المياه منها بسرعة، وقد تجلب لهم بعض الحروب على تلك الغدران.
وفي مكان آخر قريب من الخيمة يقيمون موقد نارهم، التي هي أساس تحضير غذائهم، ليلا ونهارا، وعليها يصطلون في أوقات البرد، وكلما كثر رماد قدرهم_ القدر ينتصب على الأثافي(لمناصب)، وهي ثلاث من الحجارة المنتشرة في أرضهم، وقد تكون الثالثة حد الجبل إن كان القوم قد نزلوا بجانبه)_ وُسِمُوا بالكرم، حتى قليل : كثير رماد القدر. كناية عن الكرم، وقرى الضيف.
تعود الماشية ليلا، وتحيط بالخيمة وفي أمكنة غير بعيدة حتى يسهل حلبها، ويسمى مكانها (لمراح)، وتدخل ماشية الغنم فيما يعرف (بالزريبة) حتى لا تفترسها الذئاب ليلا. والحلب يكون مرتين، الأولى ليلا، وحينما يتأخر الحلب ليلا، يقولون بأنهم(يعتمون). والثانية في الصباح قبل أن تذهب إلى النجعة ضُحًى.
يتسامر أهل الخيام عند المدخل المعروف (بباب) الخيمة، يشربون كؤوس الشاي،-(عملية صنعه تكون بوضع(المغراج) فوق النار مرفوعا (بنبلو)، وقد يضعونه فوق (المرفع) الجامع لمجموعة من(اجمر) حتى يغلي بالدرجة المناسبة، ثم يبدأ (التياي) بصناعته وبالطريقة التراثية المعلومة)_. ويتناشدون الأشعار، عامية(الغن) في الغالب، والفصيحة، إن كان في القوم علماء، وأهل ثقافة وفكر.
يدير أهل المحاظر دروسهم أمام الخيام، بعدما يوقدون النار لأجل ذلك، ولا تنطفئ حتى يحفظ الطلبة دروسهم ومقروآتهم، ويرمون عليها حطبا جزلا، ليزيد من اشتعالها. هذا في البادية العالمة التي تشبه الحضر، أما البادية التي لا يوجد فيها إلا رعاة الماشية فقد لا يبنون الخيام مطلقا. ويقول أهلها إنهم( مَعَزْبين، العْزِيب)، أي أنهم في حالة من عدم الاستقرار، وقد يرحلون في أي وقت يشاؤونه.
هذا ما أردته من تثبيت لمصطلحات الخيمة العربية الشنقيطية، حتى لا تضيع مع التراث الضائع برحيل أهله العالمين به. وأدعو من خلال هذا المقال أن يكتب أهل التراث ويدونون أسماء مكوناته خشية عليها من الاندراس، كل ذلك من خلال لغة مفهومة متداولة للمشتغلين بتاريخ وحضارة هذه الأمة.