بكى سوريا قبل أن تبكيه.. الطيب تيزيني... المفكر الذي حذر مبكراً من الانفجار

ثلاثاء, 05/21/2019 - 03:59

دمشق: «الشرق الأوسط»

عندما سقط جسده الصغير الغض في وعاء عصير الحصرم المغلي أثناء لعبه في أرض البيت العربي «غميضة»، أدرك طيب تيزيني طفل الخمس سنوات، وبينما كانت يدا شقيقه الأكبر تدفع جسده الصغير تحت مضخة الماء لتنقذه من أثر السقوط في السائل الحامض المالح الساخن، أن هناك حالة مقابلة لـ«الغميضة»، التي هي السير مغمض العينين في طريق مجهولة، هي حالة «الفتيحة»، أي السير مفتوح العينين، مبصراً ومستبصراً في طريق معلومة سلفاً، بناء على قاعدة. «التحذير» من الخطر و«الهجاء» للسبب.

في عام 1997. عندما كان قسم الفلسفة بجامعة دمشق برئاسة صادق جلال العظم، يستضيف كبار المفكرين العرب للتحاور والمناظرة، أعلن عن مناظرة بين الشيخ سعيد رمضان البوطي وأستاذ الفلسفة الطيب تيزيني صاحب الأفكار اليسارية، لكن المناظرة ألغيت، لأن آلافاً من مريدي الشيخ البوطي تدفقوا إلى الجامعة واحتلوا قاعة المناظرة والأروقة وحديقة الجامعة، ومنعوا الدكتور الطيب تيزيني من الدخول. في تلك اللحظة استشعر طيب تيزيني خطر ما يمور في العمق السوري المستور. ويذكر أن رئيس الوزراء آنذاك اتصل به معتذراً عن «تعاظم قوى الظلامية على قوى التنوير، وأن الأمر سيختلف لاحقاً» وقد أجابه: «شكراً، حين يتم الأمر بروح من الحرية والديمقراطية». تلك الحادثة ستؤسس لما سيراه الطيب التزيني ويحذر منه عام 2000 بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وهو احتمال «انفجار طائفي في سوريا» سيكون له مسوغاته من دون أن يعني هذا «أنّ الشعب السوري طائفي».

الانفجار حصل عام 2011. ووقف التيزيني إلى جانب الشعب السوري الذي كان يطالب بالإصلاحات الاقتصادية وإطلاق سراح المعتقلين، قبل مطالبته بإسقاط النظام، لكن الشعب الذي اندفع إلى الشارع بدا وكأنه يسير وهو بحالة الـ«غميضة»، فسرعان ما راحت الألغام تتفجر تحت خطاه. يقول تيزيني: «كانت مظاهرات تسعى إلى إعادة البناء من داخل البناء نفسه وعبر الجميع إن أمكن... خرجوا باسم مشاريع طُرِحت سابقاً ولم يُستجب لها. أتت المفاجأة بظهور السلاح»، واشتعال حرب لم تبق حجراً على حجر في سوريا.

وها هي «سوريا الجريحة»، وقبل أن تجتاز زمنها الصعب، وها هي حمص المكلومة تودع ابنها البار؛ المفكر الطيب تيزيني الذي بكى بلاده قبل أن تبكيه يوم أمس البلاد، عن عمر يناهز الـ85 عاماً.

حين دعي إلى طنجة في تونس عام 2015 للحديث عن «المجتمع والسلطة والدولة في مطلع القرن 21 مغرباً ومشرقاً» وعن «سوريا والإسلام» غص بالدمع وهو يحكي لمستمعيه عن سوريا التي أضحت بغالبيتها ركاماً، وعن أمله بنهضة وتجديد لا بد أنه آتٍ بعد الحرب.

لم يغادر تيزيني سوريا خلال الأحداث، بل ترك دمشق عام 2012 وعاد إلى مدينته حمص التي ولد فيها عام 1934. بحي باب الدريب، في بيئة إسلامية محافظة، كان فيها منزل والده بمثابة مضافة أو ملتقى للشيوخ ورجال الدين من الطوائف الأخرى. فتفتح وعي التيزيني على تقبل الاختلاف وتعددية الآراء بتعدد المشارب الفكرية، قبل أن يسافر إلى تركيا للدراسة ومن ثم إلى بريطانيا وألمانيا، ليعود من هناك حاملاً لشهادة دكتوراه في العلوم الفلسفية. نشر عام 1971 كتابة الأول باللغة العربية: «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط»، إلا أنه قبل ذلك كان الطيب تيزيني قد انفتح عقله على مختلف التوجهات السياسية والحزبية، وبدأ بمشروعه الفكري منذ عام 1967 مع أطروحته التي أعدها للحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا عام 1967 بعنوان «تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة»، وذلك بعد تكوينه نظرته عن الماركسية وإيمانه بأن «التاريخ لا يغفر لمن يتجاوز مرحلة فيه، ولأي اسم كان، ما حدث في روسيا أضرّ بروسيا أولاً، كما ببلدان أخرى منها العالم العربي».

بعد عودته من أوروبا استقر تيزيني بمشروع دمر بدمشق ليمارس عمله استاذاً في جامعة دمشق، وكل من تتلمذ على يديه بالجامعة يحتفظ بذاكرته بصورة لأستاذ الجامعة البسيط المتواضع، بشعره الأبيض وقامته النحيلة وصوته الرصين وحقيبته الجلدية العتيقة، يركب معهم باص النقل الداخلي في القر والحر، ويمسك بالأنشوطة المتدلية من سقف الباص والمخصصة للركاب الواقفين، لحمايتهم من السقوط عند المنعطفات. كان بتواضعه الشديد مثار إعجاب طلابه. حين قابل حافظ الأسد في القصر الجمهوري، سأله الرئيس هل لديك سيارة؟ رد عليه «نعم لدي سيارة كبيرة تتسع لأربعين راكباً ولونها أخضر». ثم خرج ماشياً من القصر، علماً بأنه وصل إلى القصر بسيارة خاصة من القصر. هذه الحادثة رواها تيزيني ونشرت في الصحافة السورية بعد وفاة حافظ الأسد ضمن لقاءات مع الشخصيات التي التقت بالرئيس وذكرياتهم عنه.

في عام 1998 اختارت مؤسسة كونكورديا الفلسفية الألمانية الفرنسية، الطيب التيزيني واحداً من أهم كبار المفكرين والفلاسفة العرب، في العصر الحديث.

كما نشط تيزيني في مجال حقوق الإنسان عندما بدا أن سوريا قادمة على التغيير بداية عهد الرئيس بشار الأسد، وجرى انتخاب التزيني عام 2001 عضواً في لجنة الدفاع عن الحريات في الوطن العربي وساهم منذ عام 2004 بتأسيس «المنظمة السورية لحقوق الإنسان» (سواسية) وشغل منصب عضو مجلس إدارتها. كما دعي للكتابة في الصحف المحلية، التي لم تحتمل كل ما كان يقوله لا سيما عن ضرورات تفكيك الدولة الأمنية.

يقوم فكر تيزيني على أساسين هما: رفض فكرة الخصوصية التي تفصل الفكر والمجتمع العربيين عن بقية العالم، ونقد المركزية الغربية التي تنزع عن الفكر والمجتمع العربيين أصالتهما أو تميزهما في الإطار الإنساني الجامع. ولم تنفصل عودته إلى التراث عن نقده الحاضر وفكره وأشكال فساده المجتمعي والسياسي والثقافي وما يواجهه من تحديات عالمية حضارية. واشتد هذا الارتباط مع انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي فراح يتحدث عن «النهضة» بدلاً من «الثورة» وينتقد كل ما يعوق النهضة من العولمة إلى الدولة الأمنية إلى الأصولية والإسلام السياسي. في هذه الأيام الصعبة في عالمنا العربي، التي كما يراها تيزيني «نبدو كما لو أننا نعيش في العصر الأول للحضارة السورية الذي أنتج أبجدية اللغة... أي معرفة كيف يصوغ الإنسان أدوات المعرفة لذاته وللذوات الأخرى».

يترجل أحد أهم مفكري سوريا والعالم العربي ليلحق بركب زملائه الذين جمعتهم دمشق يوماً، وفي لحظة هاربة من زمن ديكتاتوريتها، وغادروا الحياة تباعاً صادق جلال العظم وجورج طرابيشي، واليوم الطيب تيزيني.

من كتبه

> «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» (1971)

> «حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث، الوطن العربي نموذجاً» (1971)

> «من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في التراث العربي» (1976).

> «الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى» (1982)

> «مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر» (ستة أجزاء (1994)

> «من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي: بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية» (1996)

> «النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة» (1997)

> «من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني» (2002)

> «من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة» (2005)

> «بيان في النهضة والتنوير العربي» (2005)