د. محمد بدي ابنو
“اثنان هما أكثر المحاربين قوة : الزمن والصبر” ـ تولستوي
ـ1ـ
بالرّغم من أنّ تونس ومصر لا تتمتّعان بنفس الحجم الجيوستراتيجيّ فإنّ التّحوّل الإيجابيّ أو السّلبيّ للتّجربة المابعد ثوريّة يرتبط حاليا بمستوى كبير بما يحدث أو سيحدث في هذين البلدين كفضاء لتشكّل الرّهانات الفعليّة والمتوهّمة. وذلك بداهةً لأسباب اعتبارية متنامية بالنسبة لتونس ولأسباب جيوستراتيجية تقليدية بالنسبة لمصر. لنتذكّر أنّ النّجاح المرحليّ للانتفاضات الشّعبيّة في هذين البلدين منذ أكثر من ثلاث سنوات كان في صلب الزخم النسبي الذي حُظي به مرحليا ما سُمّي منذ تلك الفترة بالرّبيع العربيّ (كقياس مشروع أو غير مشروع على ربيع الشعوب الأوربية لسنة 1848). ولكنّ الشّروط الاجتماعيّة الّتي كانت مؤاتية نسبيّا للانتصار المرحليّ لتلك الانتفاضات الشّعبيّة كانت مرتبطة، جزئيّا على الأقلّ، بالشّروط الخاصّة بالبلـدين. من بين تلك الشروط مستوى كبير من الاندماج الثّقافيّ الاجتماعيّ وطُبوغرافيا سكّانيّة ملائمة ومستوى ما من المؤسّسية وأيضا وجود فضاءات محلية خارجة بدرجة ما عن قبضة السّلطة المباشرة. أسباب الشرط الأخير تختلف بين البلدين ولكنْ يجمعها الضّعف النّسبيّ للسلطة في كلي الدولتين أمام قطاعات اقتصاديّة معيّنة في ظلّ عدم قدرتها على أن تكون المصدر الوحيد لإعادة توزيع “العائدات” عكسا لحال الدّول الرّيعيّة الثّريّة.
ـ2ـ
ورغم وجود مستوى من التعدّد الديني في البلدين إلا أنه تعدّد يندرج في إطار بنيات اجتماعيّة مندمجة ثقافيا بنسبة معتبرة. لا شكّ أنّ هذا يشكّل ميزة غير هامشيّة تجعل تونس ومصر تختلفان إلى حدّ كبير عن الدول العربيّة التي حكمتْها أنظمة شبه ستالينيّة. فهي أنظمة لم تنجح في خلق مواطنة تتجاوز الانتماءات الطّائفيّة أو العرقية أو القبليّة أو الجهويّة بحسب الحالات. بلْ إنها أجّجتْ هذه الانتماءات في مستويات معينة وأعادتْ استثمارها أمنيا. ذلك أنّ الطّاقة التّجميعيّة وأحيانا الكُلْيانِيّة الّتي أنفقتها الأنظمة شبه السّتالينيّة المختلفة مثل العراق وسوريا وليبيا وفي مستوى أقلّ الجزائر من أجل محو أو طمس الاختلافات الثّقافيّة قد أضحتْ في مرحلة من مراحلها فاقدة للفاعليّة بسبب البنية الأمنية لهذه الأنظمة. فقدْ مالت هذه الأخيرة تدريجيّا، في تضارب بديهيّ مع شعاراتها المعلنة، إلى توظيف التّناقضات ذات الطّابع الطّائفيّ أو العرقيّ أوالقبليّ أو الجهوي من أجل التّمكين لسلطتها أمنيّا. لنتذكّر مثلا أنّ التّجانس الثقافي التربوي للعراق أو لسوريا أولليبيا الذي يُفترض أن أنظمتها قد أصرّتْ على ترسيخه شموليا خلال عقود لم يمثّل حاجزا أمام الصعود الحالي للهويات الجزئية أو الفئوية التفكيكية بقوة مفرطة.
ـ3ـ
بشكل عامّ يمكن أن نعتبر أنّ الاندماج الثّقافيّ والاجتماعيّ كان أقوى في دولتين مثل تونس ومصر. هل يمكن إرجاع ذلك فقط إلى التّجربة السّياسيّة الحديثة للدّولتين كتجربة أكثر “ليبراليّة” (حتى في حقبتها الناصرية بالنسبة لمصر) إذا ما قورنت بالدّول العربيّة شبه الستالينيّة ؟ يمكن الاعتراض على ذلك بالقول إنّ تجربة الاندماج في البلدين ترتكز على جذور تاريخيّة وتصدر عن مسار مستمرّ طويل للبلدين بينما كان التّقطيع الحدوديّ الاستعماريّ هو الأساس الّذي ارتكزت عليه الحدود التّرابيّة وبالتّالي الاجتماعية والثّقافيّة للدّول العربيّة الّتي سمّيناها شبه ستالينيّة. مثل هذا الاعتراض الذي يُستنفر أحينا عديدة في دول عربية أخرى يَسقط في فخّ أوهام الاستمرار التاريخي ويتجاهل طبيعة الأنساق الدوْلَـتية الموروثة عن الاستعمار والتفكيك الزمني أوالقطيعة التي أحدثتْها.
ـ4ـ
الأهم بالنسة لحديثنا هنا أن الاندماج الاجتماعيّ الثّقافيّ في تونس ومصر رأس مال فعلي ملموس. ولكنه يظلّ اندماجا جزئيّا. فهنالك مناطق مثلا من البلدين تتميّز بتركيبة اجتماعيّة ما تزال فيها العشائريّة جليّة الحضور. الأطر التقليدية والتّدنّي البالغ لمستوى الحياة وعدم الاندماج في أيّ مستوى من مستويات البنيات الاقتصاديّة الحديثة أو شبه الحديثة حافظتْ كلّها من جهة على تركيبة تقليديّة وشبكات تضامن عرفية مرتبطة بها، كما نمّتْ شعورا جهويّا ومناطقيا بالتّهميش لدى قطاعات غير قليلة في تونس وواسعة في مصر. نفهم أهمّيّة هذه الخريطة الاجتماعيّة حين نتذكّر أنّ الثورتين انطلقتا من مثل هذه الأقاليم الهامشيّة. كان هذا الأمر واضحا مع سيدي بوزيد في جنوب تونس وكان أقلّ وضوحا في مصر بالرّغم من أنّ مظاهرات الثورة الأولى فيها انطلقت بالمناطق النائية. ولكنّ انتقالها إلى القاهرة والمناطق الآهلة كان أسرع ممّا حدث في تونس لعدّة أسباب لعلّ أهمّها الوضع النّاتج عن الانتصار المرحليّ للحركة الثّوريّة في تونس ووضعيّة الأزمة ما قبل الثّوريّة المتوثّبة بشكل دائم خلال السّنوات الأخيرة من حقبة مبارك في مصر.
ـ5ـ
هل اختفى هذا الطّابع الأفقي للثّورتين حين أصبحتا فاعليّة ثوريّة تتمتّع بشرعيّة وطنيّة عامّة ؟ لا شكّ أنّ اكتساب الثّورتين لمشروعيّة عامّة في البلدين قد أثبتَ أنّ مستوى الاندماج الاجتماعيّ في البلدين أقوى من العوامل الأفقية وبأنّ الإشكاليّات الجهويّة تُـترجم في المشروع السّياسيّ أساسا عبر الفروق الاجتماعيّة العموديّة وليس عبر الفروق المناطقية الأفقيّة وهو ما يعطيها فاعليّة ثوريّة جامعة. بالرّغم من ذلك فإنّ هذا العامل المناطقي لم يختف تماما. فالفئات الّتي استفادت من الأنظمة المتعاقبة في المناطق المَدِينِيَّة ظلّتْ تنظر بكثير من الحذر إلى التّحوّل الثوريّ. ولم يخل تماما بالنّسبة لها من كونه غزوا “رعويّا” همجيّا أو شبه همجيّ. ولم يغب هذا العنصر عن الهزّات اللاّحقة لانطلاق الثّورتين والّتي بدأت تظهر فيها مستويات من التّضامن بين بعض الحركات السّياسيّة المحسوبة على الثّورتين وبين عدد من القوى الموروثة عن الأنظمة المنهارة . وقد كان هذا واضحا في الدّعاية المضادّة للجهات الّتي وصلتْ إلى السّلطة بعد الثّورة في تونس كما كان أكثر ظهورا في الإنشائيّات السّياسيّة الّتي حاولت تسويغ “الانقلاب العسكريّ” (في نظر مناهضيه، أو الثورة الثانية في نظر أنصاره) في مصر سواء في الفترة التّحضيريّة الّتي سبقتْه أو في الخطاب التّبريريّ الّذي تلاه . بل كانت هذه النّقطة مسموعة حتّى خارج مصر بشكل صريح أو ضمنيّ في كثير من الإنشائيّات القادمة خصوصا من العالم العربيّ (تحالف بعض المثقفين وبعض الأنظمة “اليمينية”) والّتي احتفتْ بالانقلاب وحاولتْ تبريره ومنْحه صفة الثّورة . وكان التّعبير المستعمل هنا هو “الثّورة على التّخلّف” وعبارات مماثلة عنيتْ ضمنيّا أنّ الإشكاليّة تتعلّق بوصول فئات من خارج الأطر الاجتماعيّة الّتي تشكّلتْ خلال عقود من خوصصة ريع الدّولة .
ـ6ـ
غير أن االعوامل المركّبة التي حرمتْ مصر من القدرة على تجاوز الهزات الارتكاسية ليست بالضرورة محسومة النتائج سلفا. ومن غير المحتمل أن تُراوح مصر لفترة طويلة في وضعيتها الحالية. طبعا لا تختلف مصر عن تونس فقط في مستوى الثقل الديمغرافي والإحداثيات المرتبطة به. ثمّة فعلا العبئان الكبيران : المؤسسة العسكرية والوضعية الجيوسترتيجية. ولكن ثمّة فروق أخرى لها أهمية خاصة في السياق الراهن. فالتراتبية الاقتصادية أكثر هرمية، وصراعاتها أكثر حدّية ماديا وإيديولوجيا، وحاضنتها التربوية أكثر ترهلا وتفكّكا وتواضعا. وهو ما ينقل عددا كبيرا من التناقضات السياسية من مستواها العمودي (أي الاجتماعي الاقتصادي) ويجعلها أشبه بالتناقضات الأفقية أي الثقافية والفئوية. وهي عوامل رغم ما تحمله من مخاطر جدّية فإنها قد تصبح حاليا عوامل دفْع اجتماعي أمام الحالة النفسية الحشودية التي أثمرتْها مرْحليا الثورة على نظام مبارك. وبالتالي من الوارد جدا أن تَشهد مصر على المدى القريب أو المتوسط ثورة إضافية أو انقلابا إضافيا أو تحرّكا شبيها.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل