إبراهيم الدوري ـ كاتب وباحث
قليلة هي النصوص الأدبية المعاصرة التي تهز قراءها هزا فتسَّاقط عليهم إمتاعا وإيناسا، ومن النصوص الشعرية المعاصرة البديعة التي هزت وأطربت كل الأحرار ومتذوقي الأدب الجزل قصائد الراحل الحاضر الشاعر المهندس الشيخ ولد بلعمش رحمه الله تعالى.
فقد أسرني ذلك الشاعر أيام الربيع العربي إقبالا وإدبارا، وأحببت قصيدته الأندلسية التي أرسل مع الأخ الدكتور الفاضل جعفر محمود إلى غرناطة يحمله فيها ميثاق تعلق المرابطين الأزلي بالفردوس الذي لا يفقد.
إعجابي بالشيخ الشاعر المناضل، وطربي لقريضه الجزل المناهض للطغيان والاستبداد، والراصد لهموم الإنسان عموما والعربي خصوصا، استدعى مني ثلاث مقالات عام 2012 م "تجولت" فيها معه في "خرائط الأحزان"، متذوقا مقرظا ومقدرا لنبله وإنسانيته.
حين كتبت عن المرحوم النبيل لم تكن لي به أية علاقة شخصية إلا تلك الرابطة التي أشاد أبو تمام أركانها بين المفتونين بالكلام البديع إنشاء وإنشادا، وبعد نشر الحلقة الأولى من المقالات التي كتبت عنه تواصل معي "افتراضيا" شاكرا ومقدرا، وهو رجل شكور.
حالت الغربة وبعد الشقة بيني ولقاء الشيخ، وقد رغبنا في أن نلتقي وكنا نمني أنفسنا بذلك لكن "هجمات الآجال لا تراعي فسحات الآمال"، فغادر طاهر الثوب فجأة من غير وداع ولا لقاء - أعلى الله منزلته في عليين -.
حين تداول الناس قبل عامين خبر الرحيل المفاجئ والهادئ لشاعر الحرية الشيخ ولد بلعمش لم أصدق ذلك لهول الفاجعة، فمكثت زمانا أتوقع كل حين أن تصلني منه أبيات أو قصيدة تعليقا على حدث ما كما عود قراءه، وهكذا المفجوعون تخدعهم الآمال فيتعلقون بخيوطها الواهية حتى يقطعها يقين لا يمكن دفعه.
ولما طال الانتظار ودهمتنا الدواهي والفواجع ولم نجد تعليقا شعريا يخلد لحظات أفراحنا وأتراحنا، ولم نسمع صوته الحاني ينصر مظلوما أو يعري ظالما، أيقنت بالفعل أن جسم الشيخ غادرنا في تلك الليلة الحزينة التي أعلن فيها ترامب الفجر الحزين هرعت إلى الذكريات فوجدت مراسلات معه كانت في غاية الأدب واللطف ونفاذ البصيرة.
أحب الناس شعر الشيخ، وطربوا لقريضه، وشدتهم إنسانيته المتوثبة نصرة لكل مظلوم، حتى فجع كل حُرٍّ برحيله الهادئ وهو يصرخ في المسلمين خطيبا أن أدركوا قدسكم وأقصاكم مبشرا بقرب النصر لأمة "تساقطت أنفاسه" الكريمة أسى على حسرات مقهوريها وآهات أراملها، وصرخات أطفالها في بقاع الدنيا.
وكنت أعجب أحيانا لمواكبته الشعرية لمظالم العالمَ رغم كثرة صوارف الهندسة عن القوافي؛ وحين رحل أيقنت أن أصحاب القضايا يسابقون المنايا لتبليغ رسالاتهم، وأن مقاساة الإبداع تأخذ من طُول أعمار المبدعين فتضيف لعَرضها.
أيام رحيل الشيخ المفاجئ الذي حالت الصدمة دون تأبينه كنت أقرأ مع أستاذنا محمد عبد الله الحبيب (ديدي) ترجمة أبي تمام من "وفيات الأعيان" فاستوقفته هذه القصة التي قد تعين القارئ على فهم سر كثرة رحيل النابغين بسرعة، والأعمار بيد الله، قال ابن خلكان: "ذكر الصولي أن أبا تمام لما مدح محمد بن عبد الملك الزيات الوزير بقصيدته التي منها قوله:
ديمة سمحة القياد سَكوبُ *** مستغيث بها الثرى المكروبُ
لو سعت بقعة لإعظام أخرى *** لسعى نحوها المكان الجديب
قال له ابن الزيات: يا أبا تمام، إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناً على بهي الجواهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازاة. وكان بحضرته فيلسوف، فقال له: إن هذا الفتى يموت شاباً، فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك فقال: رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده، وكذا كان" (ج: 2/ ص 16).
كان الشيخ يقظا برسالته عارفا لقيمتها الدينية والإنسانية والوطنية، وقد أرسل لي الرسالة التالية ذات مرة وأشهد أنه صادق: "مر أبو حنيفة رضي الله عنه بصبية يلعبون.. فتوقف الصبية عن اللعب.. وقال أحدهم "هذا جارنا الإمام أبو حنيفة هذا رجل صالح يقوم الليل كله".. فوقف أبو حنيفة مكانه ودمعت عيناه وحدث نفسه "أنا أداوم على قيام جزء من الليل أو نصفه على الأكثر.. بينما يظن جيراني أني أقوم الليل كله" فقرر أن يقوم الليل كله.. فبقي أربعين عاما على ذلك رضي الله عنه في الحقيقة قرأت مقالك الرائع وسعدت به لقد أنصفت وزدت، فعهدي لك بعدم الخذلان في تلك القيم والمبادئ، وأملي أن تقتدي بك أقلام أخرى في هذا النهج جزاك الله خيرا وألف شكر لك دمت ودام قلمك
أخوك الشيخ".
إلى جنة الخلد أيها المحب الصدوق.