عندما طرح خيار الاستقلال – من بين خيارات أخرى – في نهاية 1959 ,كان التحدي الأكبر المطروح هو إقناع تكتل الوجهاء والشخصيات التقليدية المقربة من سلطات الاستعمار الفرنسي بتأييد هذا الخيار الذي قبل به الفرنسيون بعد فترت تردد طويل. كان الرجل الذي انتدب لهذه المهمة هو محمد عبد الله ولد الحسن زميل الرئيس المختار ولد داداه في الدراسة وصديقة الأقرب إليه من بين كل أصدقائه الخلص.
استخدم الرجل بلاغته الأسطورية وحنكته السياسية المعروفة وقدرته الفائقة على الإقناع وثقافته الحديثة التي تميز بها من بين أفراد جيله ,فنجح ببراعة في مهمته.كما كان لولد الحسن الدور الأكبر في تحويل حدث الاستقلال من منحة استعمارية أو من مجرد غطاء للاحتلال إلى لحظة أمل في التحرر الحقيقي.
كان محمد عبد الله يمثل صوت التقدم والانفتاح والتمرد داخل الحزب التقدمي الذي تشكل أساسا من الأعيان وموظفي الإدارة الاستعمارية.والحقيقة انه كان يمثل بذاته اتجاها سياسيا فريدا ,له خيوط وصله بكل تيارات الحركة الوطنية ,خصوصا جناحها الأكثر رفضا للاستعمار والاستبداد.وكم جرت عليه هذه المواقف الثورية نقمة إدارة الاحتلال وأعوانها.
ولم يكن الرئيس ولد داداه في بداية سنوات حكمه يضيق ذرعا بمواقف صديقه الجريئة وصراحته المشهودة,في فترة كان بأشد الحاجة إليه في ملفين حيويين هما :توطيد أركان الدولة الوليدة وتثبيت وجودها الخارجي.
وقد كان دور ولد الحسن محوريا في الجبهتين .فبفضل علاقاته الداخلية القوية مع كبريات شخصيات البلاد ووجهائها خصوصا الأمراء الثلاثة عبد الرحمن ولد بكار واحمد ولد الداه ومحمد فال ولد عمير (ونائبه وخلفه حبيب ولد احمد سالم) ومع زعامات حركة الشباب والنهضة أسهم كبير الإسهام في توطيد دعائم الكيان الجديد.
وفي الجبهة الدبلوماسية,كاد دوره حاسما في تكريس حضور البلاد في الساحة الإقليمية والدولية.في بداية الستينيات عمل سفيرا في تونس والجزائر ,فكان قريبا من الرئيس بورقيبة وحلقة وصل مكينة بينه مع ولد داداه ,كما كان على صلة وطيدة بقيادات الثورة الجزائرية التي اعتبرته نصيرا قويا لها في مرحلة المقاومة .
وفي دكار كان سفيرا في منطقة غرب إفريقيا ,وهو الذي ربط الصلة بين ولد داداه والزعيم الغيني سيكو توري الذي كان أيامها الصوت الثوري المتمرد على الهيمنة الفرنسية .
كما كان لولد الحسن الذي عمل طويلا مستشارا دبلوماسيا للرئيس دورا معروفا في دفع علاقة موريتانيا بمصر الناصرية التي زارها رفقة ولد داداه ,وفي انفتاح موريتانيا على الصين التي قدم إليها في زيارة استطلاعية في بداية الستينيات.
بيد أن صداقة ولد الحسن مع ولد داداه لم تحل دون اختلافهما في الرأي الذي تفاقم في نهاية الستينيات ,خصوصا عند اشتداد القمع الذي جوبهت به حركة الاحتجاج الشبابية التي اعتبر محمد عبد الله أنها تقدم مطالب وطنية مشروعة تستحق الدعم لا المواجهة العنيفة.كما أن صراحة ولد الحسن واستقلاليته ضايقتا قرينة الرئيس التي تزايد نفوذها في تلك السنوات العاصفة.
استقال ولد الحسن من عضوية المكتب السياسي ورفض الوزارة التي عرضت عليه ,فكان أول مسؤول سام وطني يزهد في الوظيفة من اجل الهدف والمبدأ.وقد طالب في رسالة الاستقالة بافساح المجال للجيل الجديد لكي يضطلع بدوره في بناء الوطن والنهوض بالبلاد.
وعلى الرغم من تنحيه الطوعي من ملاكز القرار,حافظ ولد الحسن على علاقته الشخصية الحميمة بصديقه ولد داداه الذي كان يبادله الود والمحبة ,وان اختلف معه في الرأي والموقف.
قضى محمد عبد الله سنوات حياته الأخيرة بعيدا عن الأضواء,مكتفيا بان يكون قبلة للباحثين في الشأن الوطني الساعين لاقتناص المعلومة الدقيقة والرأي الموضوعي والوثيقة النادرة ,فضلا عن الإسهام النشط في الحياة الاجتماعية والأعمال الخيرية.
رحل محمد عبد الله عن الدنيا يوم 7 نوفمبر 1987 راضيا مرضيا ,مخلفا حسرة كبيرة لدى كل من عرف دوره المحوري في مسار الدولة الموريتانية الحديثة.