محمدي موسى دهاه
يقول كارلوس فونتيس(روائي وعالم اجتماع مكسيكي) “أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله…. نحن كتاب أميركا اللاتينية نعيد كتابة تاريخ مزور وصامت، فالرواية تقول ما يحجبه التّاريخ”.
في روايته الأولى"الشنقيطي"، يقودنا الكاتب والمفكر السيد ولد أباه إلى تاريخ مدينته الأم قبل قرون ، كيف كانت منارة وسوقا ، كتاتيب و حوزات علمية، لكنها الحرب التي يقول عنها إنها نمط من التروض والفسحة في بلاد ليس فيها من أمور اللهو والترفيه إلا القليل الذي لايذكر، "الفتنة المشؤومة" التي فرقت أعيان المدينة بين "تجگجه" و أقصى الجنوب في منطقة "اگيدي" المطلة على بلاد السودان.
يستذكر الكاتب قواقل "شنقيط" أوان ازدهارها ، إحداها كانت تضم 32 ألف جمل محملة بالملح لتباع في "زار"، الملح الذي كان أهم سلعة وقتها واندلعت بسببه حروب بين ملوك الإفرنج الذي يحتفظون بممالح خاصة.
يحضر السيد الفيلسوف في الرواية ويحاول استنطاق شخصية "المجذوب" بلبسه المختلف وعطره الفواح و طرحه المختلف الذي لايجب الإيمان به و يحاسب على إنكاره، كما يعرج الكاتب على جزء من تاريخ "وادان" ، يأخذك في جولة قصير لرواق العلماء، طنت لغة "آزير" في أذنه لأول مرة فهو مجرد "آدوران" وتعني الغريب كما فهم بعد ذلك، لكنه غادر "وادان" بعد الكساد الذي أصابها ، فالفتنة الدامية أدت للنزوح عنها لعدة جهات كما "شنقيط" .
رحل الإبن لجده في أرض الجنوب، إبان اندلاع الحرب بين قبائل الزوايا وحسان ، هناك شاهد حبات الرمل الحمراء مثل ذرات الذهب المتناثرة ، وجد في الصحراء عالما مفتوحا ، هناك نودي بطلنا "الشنقيطي" باسمه الذي اشتهر به، سأله جده عن حاله و نسبه لأمه العادة التي لم يألفها في شنقيط، يذكر "الشنقيطي" زيارة مولاي السلطان مولاي اسماعيل الشريف لشنقيط ، كيف التقى علماء وأعيان المدينة خارجها ، كما التقى بعض قادة المغافرة على وقع الطبول و أصوات البارود.
رحلة "الشنقيطي" الممتعة للحج يمر بها بقرى ومزارات، يتحفنا بتفاصيل وحياة شخصيات علمية صادفها في الطريق، في "تمكروت" التي يزور مسجدها ويحدثنا عن تأسيسها من طرف محمد بن ناصر الذي يلقن الأوراد ويؤمن قوافل الحج ، الناس في كل مكان يسألون عن "حرب شرببه" و ابن الإمام الشيخ أحمد يرى أن الحكم يوكل لأهل الشوكة وكذلك حفظ الأمن على أن يشتغل الزوايا بالعلم، مستذكرا أحداث السوس ودرعة بعد تطلع الزوايا العلمية والصوفية للسياسة والحكم.
يستطيب "الشنقيطي" المقام بتمكروت ، يزور رفقة الشيخ أحمد "تارودانت"، تتوطد علاقته بابن السلطان محمد، ليتمكن من زيارة السلطان مولاي اسماعيل بمكناسة، يقيم بقصره، جالس المورسكي ابن عايشه للاطلاع على خبايا الأروبيين الطامعين في بسط يدهم على إفريقيه بفتح مراكز في سواحل الصحراء والسودان، عاد لأرضه شنقيط بعد سنة في بلاد المغرب ، عاد محملا بالكتب ومنها انطلق نحو الجنوب ليلتقي محمد اليدالي و مينحنا ومحمد الكريم في "تنيشكل" ، رافق القائد اعل شنظوره و الملك بوبكر سيري إلى «اندر» لمفاوضة الفرنسيين ويعود بعدها لشنقيط الهادئة التي تعيش في طمأنينة بعيدا عن عظمة الغرب والخطر الذي يتهدد الجنوب، ويعود مجددا للأمير شنظوره المهموم بالخطر المحدق به، رحل معه تجاه المغرب ليلتقيا السلطان ، وفي اجتماع حضرته البركنية اخناثه تقرر مدهم بالجيش .
لايمد صاحبنا رجله ، إلا لاح له سفر جديد، رمته الأقدار لمصر في رحلته للحج هذه المرة ، فمن غير اللائق بقاضي شنقيط أن لايحج ، يمر بالمغرب وهناك مهمة جديدة في انتظاره كالعادة، لفتت "أم الدنيا" انتباهه فياداخل مصر هنا ألف من نوعك كما يقول الأسلاف، ووصل مكة ونزل في بيت شنقيطي صديق لوالده، دخل في نقاشات أحقية العلماء الشناقطة في الوقف المغربي باعتبارهم من بلاد السودان، وفي طريق العودة صلى في مسجد عقبة ابن نافع بالقيروان.
عاد الشنقيطي لمدينته الصامتة، ليعيش عزلة موحشة، لكنه يرحل ككل مرة هناك إلى الجنوب، حيث الحنين الدائم لأخبار صديقه الأمير شنظوره ، حضر صراع الإمارات وكان طرفا فاعلا في لقاءات السلطان مولاي اسماعيل واعل شنظوره ، وكلف بمهام للإمارات الثانية، وفي مجلس الأمراء كان الشنقيطي مختلفا عن الشناقطه فلاضير لديه في الاستماع للطرب خلافا لأهله، بعد فقد صديقه قرر العودة لموطنه لينهي رحلة كدحه الطويلة، فهل فيها ملجأ وحماية وهي اليوم منفى المعتزل بعد أن قل السكان وتضاءلت التجارة وانقطعت السبل؟