أيها الإخوة المارون على الصفحة،
إذا كان من اللازم علي أن أفي بالمتعهَّد به، من محاولات في تحديد بعض الجوانب من أبعاد أزمتنا الثقافية والقيمية التي نعيش؛ فقد استمرأت أحايين كثيرة أن أتَّخذ لنفسي فسحة، بإحدى ما أسميتها وقفات/ الهامش على المتن؛ وإليكم إحداها، كانت بُعيْد الانتظام في هذا النهج، وهي من سنين ثلاث قد خلت:
لوسكت من لا يعرف لقلَّ الخلاف
ابن رشد
كُنَّا قد انْتهَيْنا ـ في الأخيرة من وقفاتنا هذه التي ما زالت تتوالى ـ إلى ما بدا لنا أنَّه حكمُ ذوي البصائر على ثمرة نظامنا التربوي غير اليانعة؛ والتي وصَمْناها بقُوَّة تَوازُن المخرجات، توازُنا يحْكُمه الهُزالُ؛ حيْث هو شحيح في كَمِّه، ضَحْلٌ في عمقه؛ وإذا ما ظَنَّ بعْضٌ ـ اعتمادا على ما يبدو لمن لا يقوى بصره على الرؤية الصحيحة، أو من يتَلَبَّس بإلباس المعطيات العيانية لبوس التوهيم، وتزييف الواقع ـ أن من اختصاصات التعليم عندنا ما تتوافر فيه الكفاءة، ويحقق زيادة على الكفاية؛ فإن الأمر على خلاف ما يظنون، و غير ما يكْبُر في عيونهم؛ ولذلك فإنه لا خوف من تخمة لم تقم أسبابها.
على أن مرَدّ الأمر قد يكون أن هؤلاء الضائقين بالأدب ذرْعا، والمُتنقِّصين من قيمته، قد صُوِّر لهم أنه عديل التفكير الخرافي والشعوذة؛ وبذلك فهو مقابل التفكير العلمي، وأن الاثنين يتنافيان تنافيَ وجود؛ ومن ثم فإن إعداد العقول القادرة على التخطيط وترقية الشعوب، يشترط في تنشئتها بيئة سلطان الأدب فيها ضعيف؛ والشعر ـ أكثر قسائم الأدب تغذية وتلازما مع الخيال. وقد عشعش الخيال الشعري في ذاكرة الموريتانيين الجمعية؛ وثمة مقولة تربوية مؤداها أن تهيئة الأذهان لأي لون معرفي، تتطلب ألا يزاحمه، في إدراك أولياته، أي شيء من المدركات الأخرى؛ وهو ما يتطلب قاعدة في التربية، هي: «مسح الطاولة»
ولئن كنا قد أوضحنا ـ من قبل ـ الخلل في التأسيس على اعتبار العلوم والآداب متنافرة، فقد يكون مناسبا ـ في هذا المقام ـ الإشارة إلى خطل الرأي في مقولة مسْح الطاولة، في حالنا هذه؛ حيث للموريتانيين مع الأدب، ومع الشعر بالذات، علاقة خاصَّة، مَنْشؤُها ارْتباط هؤلاء القوم، في خصوصيتهم الثقافية، وفي تركيبتهم الذهنية وذائقتهم الجمالية، وفي آلياتهم المعرفية بالشعر؛ بما داخل به ذاكرتهم ومخيلتهم الجمعية، وطرائقهم في صياغة الوجود، ومحددات الانتماء. وقد يغدو من الوارد أن تستوقفنا مقولة أخرى سيارة، في محددات الهوية عندنا، وهي مقولة « المليون شاعر » الكثيرة الشيوع الطيبة الوقْع، في نفوس المتحمسين للانتماء.
غير أن الخوض في نقاش المقولة يحتاج استفاضة في الحديث عادلون عنها الآن، ومرجئوها إلى سياقات استحضار أجزاء الكينونة؛ سوى أن السكوت عنها، لا يحول دون إلماحات سريعة حولها، في عابر الحديث؛ إذ تقتضي ذاكرة استعمال العبارة استحضار أن مطلقها ليس من أبناء البلد؛ فمسألة مطابقة الحال تعود إلى سياق المستعمل؛ ولا تلزم الناظر ببصيرة الناقد المتَفحِّص، أو المؤرخ المتحرِّي دقة الوصف؛ والقبول الحسن الذي لقيته المقولة/الوصف هو بسبب من حب الشعر حبا جما واستملاح كل مرجعية هو أساسها؛ على أن العلة العميقة هي الانتساب إلى لغة الشعر والتحمُّس للانتماء إلى من كانت لغته (الشعر) لغة القرآن، الذي وصفه جل من واصف ب ﴿وَإِنََّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُوْنَ﴾
وحين كان الشناقطة يشُقُّون مَجْرى تاريخهم غِلابًا واقْتِدارا، ولم يرغبوا في معنى للوجود غير ما اجْتَرحوا لأنفسهم من معانيه ـ كان الشعر هو صوغ معاني ذلك الوجود، وهو الذاكرة والخيال الجمعى؛ وقد وجدنا آية ذلك في إسهامهم الكبير في تحقيق التراث العربي ونشره؛ فتبوَّءوا به مبَوَّأ فِعْل في رتْق فاصل ماضي العرب وحاضرهم؛ وجهود محمد محمود بن التلاميذ، وأحمد بن الأمين الشنقيطي، والشيخ آبه بن اخطور، وأبناء ما يابى، وأضراب هؤلاء…شاهد على ما نقول. هذا في حين يمَّموا شَطْر الجنوب؛ فقدَّموا الإسلام، بطابعه المتسامح، معزِّزِين وجودَه بالتَّمكين للسان العربي، ولولا الشعر لما وجدوا سبيلا إلى إبداع أنموذجهم الثقافي؛ إذ لم يحتفوا بالشعر، لمجرد اقتضاء نظرة التقديس المستحكمة فيهم؛ وإنما لأنهم جعلوه لَبوس كلِّ نتاجهم العقلي؛ وذلك ما يعطي معنى لظاهرة الأنظام التي جعلت موضوعها كل شيء عندهم.
ولولا كل ذلك لما كان لهم ما كان من تأثير، ونفوذ عمروا به الفضاء جنوب الصحراء، ولولاه ما كان عطاؤهم الثَّرُّ إسهاما في امتداد الفضاء شمالا…وتضييق الهوة الصحراوية بين الجنوب والشمال. على أن هذه العلاقة الحميمية بين الموريتانيين والشعر لا دور لتعليمنا النظامي سلبا أو إيجابا فيها؛ وإنما هي قدرنا وجبلتنا وذائقتنا التي لا نملك منها فكاكا؛ وإذا كان تخطيط سليم، محكوم بنزعة علمية، يسعى إلى فهمنا، من أجل تحسين أحوالنا، والحفاظ على ثوابت وجودنا؛ ليفلح في ترقيتنا، فينبغي أن يحسن فهمنا، وأن يترفَّق بنا؛ حتى لا يُجافي طَبْعَنا، ويُعْمينا بدلا من علاج أدوائنا، وتعقيد أزماتنا؛ ولسنا بحاجة إلى زيادة اعتلالنا، بمضاعفة العقد، وإحداث الانفصام في ذات يتهددها الجوع القاتل، و الجهل المركب، والخوف المميت.
والنية استئناف القول في الأسبوع القادم ـ إن شاء الله.