أنا لا آكل الفصاحة والبلاغة،
ولا أشرب التضمين والجناس
ولا ألبس بحور الشعر
أنا لا أتوقى الحر بمقامات الحريري وديوان "قالت لي السمراء"..
ولا أشتري دواء أمي بديوان المتنبي، وخطب قس بن ساعدة،
ولا أخصف نعلي برسالة الغفران..
أنا لا أطبخ عشائي على ديوان الحماسة،
ولا أبتاع لطفلي قلما بكاريمزما وزير أول، أو رابع،
ولا أحجز مقعدي في سيارة القرية بكتاب سيبويه..
كل البلاغات الشعبية والعربية، والعالمية، وكل دور الخياطة والصناعة والصياغة والفتيا، وكل نوافير اللغو الفائض من شفاهنا لا تسد الثقب الصغير في سقف عريشي الخشبي، ولا تنفخ عجلة عربة الحمار التي يركبها صغيري ليجلب لنا ثمن غدائنا من حمل بضاعة المنعمين...
أنا لا آكل المد والإمالة والترخيم..
ولا أتنفس علامات الترقيم..
لأني أدركت بعد فوات الأوان
أن كل شقائي، كل الغبار الذي أكلني وخنقني، كل مهاراتي، كل قراءاتي وأبحاثي، كل إخفاقاتي ونجاحاتي، كل تعثراتي وإنجازاتي، كل أسفاري وأتعابي وأمراضي، كل مغامراتي، كل أمواج العرق المالح التي حملتني إلى غابات الأفاعي، كل الشقوق الغائرة في شفتي وقدمي، كل السنين التي سهرتها وعركتني، كل المسافات التي قطعتها من فصاله إلى كرمسين، ومن غابو إلى وادان، كل التجاعيد المحفورة في جبهتي، كل الجهود والتضحيات التي زرعت غابات الشيب في عارضي، كل أحلامي المتكسرة على خيبات آمالي، كل آلامي وأوجاعي وأوهامي، كل عشقي في عمري المهني الطويل،
كل الليالي التي قتلتها وقتلتني لبناء هذا الهرم الزمني الكبير، كل هذا كان سباحة في الرمل الحارق، واصطيافا على شواطئ الأزمنة الرديئة...
ما أقسى أن تركلك نكبة 99، ومعاشك المجهري ليكون سطرك الأخير سقوطا في المثلية المهنية، متسول عمل، أو متطفلا على حرفة لا تتقنها، أو باحثا عن وظيفة وهمية يأتيك ريعها سرا، أو ناقلا، أو سائقا، أو بائعا متجولا يعرض دقيق السمك المتعفن...
وأحيانا يقذفك اليم إلى أرصفة الهوامش المنسية، منفيا عن مملكة الحياة، منتهي الصلاحية، تنكر من الدنيا ما تنكر منك الدنيا، فلا الأفعال أفعال، ولا الأحوال أحوال...
لتجد نفسك تاجر علم طوافا على البيوت، تنادي على بضاعة مجزاة: انتباه، انتباه، انتباه، طنْ، طنْ، طنْ، من يشتري درس كان وأخواتها، انتباه، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس الاقتباس والتضمين، انتباه، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس معاني الزيادة وعين الفعل في المضارع، انتباه، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس فرائض الوضوء، انتباه، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس تحليل قصيدة المساء،
انتباه، انتباه، طن، طن طن، من يشتري درس الفلسفة والعلم، انتباه، انتباه، طن، طن، من يشتري درس ضرورة الشك، طن، طن، طن، من يشتري درس الفلسفة الوضعية، طن، طن، طن، من يشتري درس مؤتمر باندونك وعدم الانحياز...
طن، طن، طن، من يقبل هذه الدروس مجانا، طن، طن، طن، من يقبل هذه الدروس مجانا وله هدية...
تتوقف السيدة عن كنس الشارع وتسأل:(ما عندك بَنْضْ من بَنْجَهْ لَعِدْتْ تَكْبَظْ القِيمَهْ آنَ عَنْدِي ألَّا بَلَايَهْ ولَّ حَبَّهْ مِنْ بَارَاسَيتَامُولْ)..
...فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفس جدي إن دهرك هازل