"يشتاقُ إلى ظلّه ويأمر نفسه، أو يأمر النفس، أن تسري بظلّها. وَحَدَّثَـه "القَادِمُ قالَ.. "إمَّا" أو "لـمَّا"". يشتاقُ الشاعر، كذاتٍ إبداعيةٍ، إلى ظلّه لأنَّه عن كلّ ظلّ مبتعدٌ، يشتاقُ إليه كما "يشتاق إلى وجهه" لأنّه عنهما منفصلٌ وإليهما – كمنْـفصِلين عنه - منطلقٌ. إنّه يشتاقُ "إلى أيّ اسْمٍ بدلالةِ فعْلِ" لأنّ مهمَّتَهُ هي أن يبدع الأشياء، أن يخلقها، أن يفعلها كما تكون، لا أن يجدها كما كانت. فالمبدع بصفته كذلك عن كل اقتفاءٍ وتقمصٍ ومحاكاة منقطع.
وهو إذنْ يشتاقُ إلى ظلّه لأنَّ ظلّه كمبدع ليس ظلا بل أفُقاً، إنَّه تجاوزٌ وخروجٌ وانغراسٌ فيما ينشأ ويكون. ليس للمبدع ظلّ إلا مجازاً. وظلّه كوجْهِهِ لا يُشْبِهُهُ، ليسَ معادلاً مكانياً له بلْ هو أفُقُهُ الزَّمَكَانِي، هو في الاستعارة الصوفية الشهيرة ما يتَشَكّل - كصيرورة في طريق الكشف - من مدارج ومنازل السالكين، أي من محطات خروج الكينونة في "تَوَجُّدِهَا" من ممكنات ما سيكون. مَدَارِجُهُ "في السّمةِ … سِمِةِ الهَرْوَلَةِ المُسْتَـفْرِدَةِ".
إنهُ المريدُ السَّالك، لا إلى مرادٍ جاهز ما، بل إلى خَلْقِ مراده المتحصِّن إمكانا ووجوداً بفرادَتِهِ.
ذلك أن الشاعر مبدعا حين يحنُّ لا ينظر إلى الماضي، إلى ما كان، إذ عودته عودة إلى المستقبل، "دربها" يخترق الوقت نحو "الزمن القادم".
الفرادة جوهر الإبداع وهي تصدر عن سبر الذي يكون وسيكون لا الذي كان، تعني الذاتية لا الغيرية، الخلق الذي يبدع الغد لا التقمص الذي يحاكي الأمس. المبدع بهذا المعنى يحنّ إلى ما لم يكن كي يكون، يبدع القادم حلما ثمَّ واقعاً ينبجسُ في الكينونة "بين الخطوة والخطوة"، وجوده صلب بما هو إبداع لأنه شوق المبدع لا إلى الأمس القريب أو البعيد بل "إلى الغد مزروعا في الحلم" "إلى غد القطيعة" الذي يبدع سنةً لا كالسنوات المكرّرة، سنة ليست من السبع العجاف، بل سنة لا يتطاول فيها الأربعة، إنه غد يريدُ أن يمنح الناس يوما خارج الأسبوع وعاماً بعد السّبع "غد يَبْتَرُّ ليُغْضِنَ تخضيرَ فُصُولِ السَّنة".