د. السيد ولد أباه بعد انحسار ثنائية اليمين واليسار التي أطّرت لعقود طويلة الفكرَ السياسي الحديث، يعود العالم الغربي إلى إشكالية التقدم والتقليد التي كانت السؤالَ المحوري في بدايات عصور الحداثة والتنوير. كانت هذه الإشكالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تتمحور حول سؤالين رئيسيين: سؤال إبستمولوجي يتعلق بالثورة العلمية وأثرها على مفهوم الحقيقة وتأثيرها المحوري في تركيبة الوضع الإنساني، وسؤال مجتمعي أيديولوجي يتعلق بمفهوم التقدم من حيث هو أفق تطور الإنسانية الغائي نحو الحرية والمساواة والرفاهية. ورغم بعض الاتجاهات المحافظة المتمسكة بالمنظومة الكوسمولوجية الكلاسيكية وبالنظم الاجتماعية التقليدية، سيطرت المفاهيم التجريبية والتقنية للحقيقة وهيمنت قيم التقدم وصناعة التاريخ على الفكر السياسي والاجتماعي، في ما وراء ثنائية اليمين واليسار الأيديولوجية. يلاحظ «نيكولاس تريونغ» في دراسة مطوَّلة حول أصول وخلفيات النزعات «الرجعية الجديدة في الغرب» («لوموند»، 15 يناير 2022) أن الحوار الفلسفي الفكري يتمحور راهناً حول الثورات الثلاث التي تمر بها البشرية حالياً: الثورة الإيكولوجية البيئية، كما تبرز في الاحتباس الحراري والموجة الفيروسية الحالية التي قوضت المسافة الانتروبولوجية بين الطبيعة والثقافة، وفرضت إعادة ترتيب علاقة الإنسان بالوسط الحي في مجمله، والثورة الحميمية المتعلقة بطبيعة العلاقات بين الجنسين ونظام الأسرة والقسمة بين الفحولة والأنوثة، وأثر ذلك كله على الهيمنة الذكورية على المجتمع، والثورة الجيوسياسية التي ألغت مركزية أوروبا في النظام الدولي وفرضت واقع التعددية القطبية في أبعادها الاستراتيجية والحضارية والقومية. وهنا يستند «تريونغ» إلى حديث عالم التحليل النفسي «فرويد» حول التحولات الكبرى التي جرحت «نرجسية الإنسان»: ثورة كوبرنيك الفلكية التي قوضت مركزية الأرض في نظام الكون، وثورة داروين التي ألغت الخصوصية البيولوجية والقيمية للإنسان في عالم الحيوان الحي، وثورة فرويد نفسه التي بيّنت أن اللاوعي هو العنصر الحاسم في التوجهات الثقافية والنفسية للإنسان. ما يمكن أن نستخلصه من تحليل «تريونغ» هو أن الجدل الفكري الأيديولوجي الراهن في الغرب يتركز حول التحديات الكبرى الناجمة عن انفصام العلاقة العضوية التي قامت في العصور الحديثة بين حركة التحول التاريخي والقيم الإيجابية للفعل الإنساني، بمعنى الأثر الملموس للتقدم البشري معرفياً ومجتمعياً على تقدم النوع البشري. صحيح أنه منذ بدايات القرن العشرين، ظهرت الأفكار النقدية للتطور العلمي والتقني وبدأت تتلاشى أحلام «التقدم الحضاري والأخلاقي» للبشرية، بما أفضى في نهاية المطاف إلى ما سماه الفيلسوف الفرنسي «جان فرانسوا ليوتار» بأزمة «السرديات الكبرى» التي قامت عليها ديناميكية الحداثة مثل الحقيقة الموضوعية والإرادة الحرة والمساواة الكونية الشاملة. إلا أن ما يجري حالياً يتجاوز هذه الملاحظة المبثوثة في أدبيات «ما بعد الحداثة»، ويتعلق بمستوى جديد من تحولات النوع البشري في مكوناته الانتربولوجية والمجتمعية العميقة. فلا شك أن الثورة الجينية الذكائية الراهنة بانعكاساتها التقنية الشاملة قد أفضت إلى صياغة نمط جديد من الإنسانية فقدت فيه علاقتها التقليدية بنظام الأسرة والمدينة والدولة ونمط المعرفة وصيغ إنتاج الثروة وطبيعة نسق العمل.. وهي تحولات تنعكس اليوم على الخطاب السياسي بقوة. ومن هنا التيارات الثلاثة الكبرى المتصادمة في الحقل السياسي الغربي: التيار التقدمي الكلاسيكي الذين يتشبث بمكاسب الحداثة الكبرى مع رفض التجاوزات الكبرى التي قوَّضت معايير الحقيقة والوعي والحرية من منطلقات تنويرية حداثية، والتيار ما بعد الحداثي الذي يرى أن التحولات الجديدة قد منحت الإنسانية آفاقاً جديدةً للتطور والرقي بدأت تتجسد في أدوات ونظم مختلفة عن صيغ العالم الحداثي التقليدي، والتيار الشعبوي المحافظ الذي يتشبث بمعايير الهوية الثابتة ثقافياً ومجتمعياً لكبح حركية التحول الجذري التي تعيشها البشرية راهناً. إن هذا الصراع الثلاثي في مناحيه الأيديولوجية والنظرية هو الذي يطبع تركيبة الحقل السياسي في الغرب حالياً، وقد قضى عملياً على المعادلة الأيديولوجية الحزبية التقليدية. ومن نتائجه الأساسية الالتباس المتزايد في مفهوم «التقدم» نفسه، باعتبار أن السؤال المطروح هو: هل تضمن حركية التطور التاريخي في ذاتها التحول الإيجابي للإنسانية أم أنها خطر على الثوابت الانتروبولوجية الكبرى التي تكرس كرامة الإنسان وخصوصيته؟ إذا كان جان جاك روسو في القرن الثامن عشر قد ربط بقوة بين فكرة حرية الإنسان وقابليته للخروج الإرادي من نظام الطبيعة، فإن التحدي المطروح حالياً هو كيف يمكن الدفاع عن حرية الإنسان وتبريرها بعد أن أصبح هدف السيطرة على الطبيعة وامتلاكها من المثاليات المستحيلة والأحلام العقيمة؟ *أكاديمي موريتاني