العصفور يبني عشه رغم أنف الزوابع / إبراهيم الأندلسي

أربعاء, 11/28/2018 - 19:57

 

يقول الفيلسوف غاستون باشلار:

" هل كان العُصفورُ  يبنِي عِشَّهُ  لو لمْ يَمْلكْ غريزةَ  الثِّقةَ  بالعَالَم "

رمزيةُ العصفور رمزية جميلة و حالمة، فهي تدور في مجالها الخاص  بين العمل و الغِناء  ، و البساطة و الروحانية ،  بين اللعب و الجِدِّ ، بين المُتعة و الخوف ، بين الخطر و الأمن ، و عِشُّهُ  رغم ارتفاعه فهو اعترافٌ بضرورة المُحيط و اعتمادٌ على حمايته و دعائمه.

و رمزية العِش تحمل كلَّ معاني الهدوء و الأمان و المسالمة حتى أنه لا يُشغل فراغا جديدا مُستقلا بذاته من عالم الفضاء الواسع ، لكي لا يدّعي أحدٌ الاعتداء على أملاكه الخاصة أو فضاء نَظَرهِ المَحميِّ بقانون الغَلبة و القدرة و القوة و التّسلُّط، و العِش لا يُدافع عن نفسه حتى لا  يُعتبَرَ ذلك الدفاعُ مُقاومةً أو تحضيرا لهجوم مُحتمَل، لأن ذلك قد يُعتبر إرهابا في قانون المُتغيرات حسب قوة الدمار و السّلب و النهب ، إن العش يعتمد على قوة طبيعية في الدفاع عن نفسه، منها الأغصان و الأشواك، و هو أمر يُشبه الحمايةَ تحت ظِل إمبراطورية كبيرة مُتحكمة و مُتغلِّبة.

و رمزية بناء العِش تُعبِّر عن عمَلٍ دؤوب و مُنتظم  باستخدام مواد بسيطة ليست مُلكا لأحد و لا تستقطب اهتمامَه، لأن ذلك يُبعِد الصِّراعَ و الهجوم و يَمنَعُ التنافسَ الضَّار، و العش في شكله الخاص لا يعتدي على ملكية الرسوم الهندسية و لا على ألوان لوحات المصممين و لا أبوابهم المزركشة ، و لا ممراتهم المُزينة و المُمَرَّدَة.

و هنا نصل المِلكية و إن كانت ملكية بسيطة فهي ملكية الثقة الخاصة، و ربما تكون أضعَفَ أنواع الملكيات المعروفة ، فهي ملكية غريزة  ظَنِّية
قد لا تُشكِّل عائقا أمام المِلكيات المُطلقة السابحة و العائمة.

العَالَم هو كوننا الواسع و المُشترك، ذلك ما تقوله قِيَّمُ التعايش و قَوانين الحفاظ على المُحيط و جميع الشرائع و أصدقُ النظريات، لكن كل ما سبق يدخل في بَنْد الأمور النظرية و المُعلبات الجاهزة.

فما الذي جعل العصفور يبني عِشه؟
أهو  الأمان  الآنِيُّ  وحده؟
أم دوره في استمرار الحياة؟
أم ضرورة العِش لاستمرار أمور نجهلها؟

الظاهر أن هذه المخلوقات التي تُشاركنا هذا الفضاءَ الكَونيَ الكبير و الواسع لا تَعترِفُ بانتصارتنا المُطلقة و لا مِلكيتنا الخاصة، و لا حتى قوانيننا الجاهزة و الجائرة، إن هذه المخلوقات الضعيفة و الصغيرة تُمارس حياتها بشكل عادي دون أدنى اعتبار لما نتخيل أننا وصلنا إليه، و كأنها بفعلها ذلك تقول لنا : أيها الحَمقَى لقد سبقتكم الحياةُ  و ستستمر بعدكم ، فعيشوا أعماركم ببساطة ، و اتركوا التصادم لأنكم ستخسرون المعركة كما خسرها مَن سبقكم مِن المُتعجرِفينَ .
هل اعترف النمل بحدود القَصْر و وَثائق المِلكية ؟
و هل اجتازت الفراشاتُ  أسوارَ حُدودِ الدوَّل و هي تَعلَم أنها تَعتدي على حُرمة دوَّلٍ عظيمة ؟
هذه المخلوقات تملك ثقةً  عاليةً بعالَمها و مُحيطها، و تنظر إلى التَّغيرات و الأحداث و كأنها زوابعُ بسيطةٌ  في فنجانِ فِكْرٍ  ضَيِّقٍ  آسِن.