أدي آدب
الحقيقية أن هذا العصر جدير بلقب عصر الزر؛ حيث تحولت الثورة التكنولوجية، إلى ثورة للأزرار، أصبحت تتحكم في حياتنا، وتديرها حتى بأخف لمسة، وأحيانا بأبسط حركة، أو إيماءة خفيفة، وبدون أدنى ملامسة، وقد سبق لي أن كتبت قصيدة بعنوان " الحب وثورة الأزرار"، سنة 2007، محاورا فيها الشاعر الأندلسي ابن زيدون، ومقارنا بين عالمي الروح والمشاعر الإنسانية، في عصري: "أضحى التنائي"، و " وأضحى التداني"؛فقلت:
أضحى التـّـداني بديلاً من تنائيـــــــــــنا
البعدُ.. ماتَ.. ومــــا عُـدنا كماضـينا
كــمْ قَـاربتْ ثـــورةُ الأزرارِ عالَمَنــــــا
فالفصلُ وصــــــلٌ.. أقاصينـا.. أدانينا
طيُّ المكــــانِ..وقهْرُ الوقتِ..لم يَعُــــــدَا
شــأنَ التّصوفِ.. صـارا طـوْعَ أيديـنا
فلتمرحِ النوقُ.. لــن نُنْضِيَّــها سَفـَــــــرًا
إثْرَ الظّعــــائنِ.. فـالأزرارُ تكـفينــــــا
لكنّمـَـا عالَمُ الأرواحِ .. ما طُـويـــــــــتْ
فيه المســـــــافاتُ .. دانينَا.. كقاصينا
تَوَثَنَـــــتْ رغــباتُ العشقِ.. في دَمِنـــــا
فالجسمُ يُعبدُ ربـاًّ.. والهـــوَى دِــــيـــنــا
وَا ضيْعةَ الحبِّ.. معراجًا لأنفسِــــــــــنا
وسِــدرةَ المنتهــَى ..مرعى أمــانينا!
آهٍ من الطـــينِ.. غالَ الرُّوحَ في جســـــدٍ
يا نفْحةَ الرُّوحِ .. هُبِّي.. نوِّرِي الطِّينا!
قــمْ يا ابنَ زيدونَ ..و انظرْ ما بنا فَعلـتْ
حضارةُ الزِّرِ.. عاثتْ في معــــانينـا
لا الحُبُّ حـُـبٌ .. كما كُـــنَّا نُقـدســــِـــــه
يشِـــعُ بالطُّهرِ .. بالحرمانِ يُحييــنانا
لا الشِّعـــرُ شِعــرٌ.. كمـا كنّا نرتِّـلـُــــــه
فنـُسْكِرُ النَّجمَ ..من أصْدَا أغــانـــيــنا
حتــى الجَمـالُ.. هــنا.. غُشَّتْ مفاتِنـُــــه
في ثورة الزِّرِ.. صار الحسنُ تحسينا
مـــن أينَ يَنْبِــجِسُ الشِّعــرُ الجميـــلُ.. وفي
عيوننا.. يَكتبُ القبحُ الـدواوينـــــــا؟
حضــارةُ الـزِّرِ.. مـــا تنفـــكُّ تقــذِفُـنـــــا
منَ المآسي.. بمـــا يُدْمي مآقيـــــنــا
تُعَـــوْلِمُ البُغْـــضَ فــي آفـــاقِ أنفســــــنا
وتقتل الحبَّ .. بالفوْضى تـُداويـنــا
الحـسنُ.. والحبُّ.. والشِّعرُ الجميلُ.. عنَا
وِينُ الحياةِ.. فلاَ تمحُوا العَنــَاويـنــَا
نعم، لقد كانت فوارق المكان والزمان هَمًّا مؤرِّقا في مجال التواصل والتفاعل، لا سيما بالنسبة للشاعر المحب، الذي يشعر-حتما- بما لا يشعر به غيره، إذ طالما ضجت مدونة الغرل في الشعر العربي القديم، بمعجم البعد، والنأي، والبين، والشوق، وأخواتها، لكن بعد انفجار «ثورة الأزرار»، التكنلوجية، وانتشار أجهزة التواصل، ومواقعه المتعددة، التي طوت المكان والزمان فعلا، أصبح ينطرح السؤال: هل كانت حميمية التواصل الروحي، أكثر وأعمق في عصر الفصل، أم في عهد الوصل؟
إن ثورة الأزرار- في نظري- لم تضر بالحب وحده، وإنما ألحقت الضرر- أيضا- بالشعر والجمال، حيث شيَّأَتْ هذه المعاني السامية، وعاثت في مجمل عناصر هذا الثالوث فسادا، فبقدر ما وفرت ثورة الأزرار من قنوات الاتصال بين الأشباح، غشَّت حميمية التفاعل بين الأرواح، وسطَّحت عمق المحبة الإنسانية، ودنست طهر الجمال الفطري، وأفشت الموت والقبح، وعَوْلَمَتْ الكراهية......
كل هذه التداعيات تنطرح اليوم أكثر، ونحن نرى رئيسين مجنونين ، أحدهما في الشرق، زعيم كوريا الشمالية، والآخر في الغرب: رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، يضع كل منهما أصبعه، على الزر النووي لترسانة سلاحه الفتاك، معلنا كل منهما أن لمسة زره كافية لدمار الأخر، في حالة جنون مقلقة للعالم كله، حيث أصبح عنوان "الحرب .. وثورة الأزرار" أولى حاليا من عنوان قصيدتي: "الحب.. وثورة الأزرار"، فما أحوج هذا العالم اليوم إلى المثقف الثوري الذي يتحكم هو الآخر في أزرار المعرفة والفكر، ويتحكم من خلالها حتى في مثل هؤلاء الحكام السياسيين الجانحين، ويصنع بها ثورته الواعية الحكيمة، وفق ما تحدثت عنه، في قصيدتي "أنا سيد الثورات":
أنا لسْتُ أمْلكُ مِنْ سلاح..
غيْر هاتيْن اليديْن..
لغيْر رَبِّي.. لمْ تُمَدَّا
تُتْقِنانِ.. إشارَة َالنصْرِ..
التحَدِّي..
تَصْنعانِ السِّحْرَ..
بالأزْرارِ.. والأقلام ِ
أنا لسْتُ أمْلكُ مِنْ سِلاحٍ..
غيْر عَقْلٍ..
خبَّأ الأعْصَارَ..
والأقْطارَ..
والأفْكارَ..
تحْتَ الزرِّ..
إنِّي سَيدُ الثوْراتِ..
رَبّ السِّلْم..
فالحُكَّامُ - منذ الآن-
طوْع زمامي.
للأسف الشديد، توجد الأزرار الآن في متناول أصابع كل من هب ودب، حتى من المجانين، والجهلة، بعيدا عن سلطة الرقيب الخارجي، وتحكم الوازع الداخلي، فاللهم سترك، ولطفك في عصر جنون الأزرارهذا!
أدي ولد آدب-