/محمد الأمجد ولد محمد الأمين السالم
توطئة
…..
منذ نشأ ت حضارة البشر والشيطان جزء من بنيتها الفكرية فهو أول عدو للأب الجامع لبني الإنسان (آدم عليه السلام ) الذي استخلفه الله في الأرض وكلفه بإعمارها بعد أن خلقه منها كما هو مفصل في القرآن الكريم
وفي المراحل التي حكم فيها التفكير الأسطوري والوثني عقل الإنسان كان الشيطان عدوه المتخيل الخطير القادر على فعل كل ما هو سيئ
حضور الشيطان الواقعي والمتخيل في تفكير الإنسان وظفه هذا الأخير بصفة مكثفة في حقل الثقافة بمفهومها الواسع وتجليلتها الإجتماعية والفكرية …..
والشيطان شيطانان أحدهما هو الشيطان الذي حدد القرآن الكريم هويته وثانيهما هو الشيطان المجازي ويمكن أن نعبر عنه أيضا بالشيطان الفكرة أو الشيطان المتخيل الموجود في المخيال البشري وهو متعدد الأوجه والصوربحسب تعدد وتمايز الخلفيات الحضارية والأدوارالثقافية والاجتماعية التي يوظفه الإنسان للقيام بها….
………………………………..
سأضرب صفحا عن التعريف لغويا واصطلاحيا بالشيطان أذ في المعاجم(1) والموسوعات والشبكات اللغوية المتخصصة ما يغني عن تكرار المكرر وتوضيح الواضح ؛ لأرسم ملامح الموضوع من خلال العناوين التالية :
–في الهوية
— في الحضارات القديمة
–في الأسماء
— الحرب الشيطانية الكبرى
— الشيطان الحقيقي والشيطان المجازي
–صورة تقريبية لشكل الشيطان
–شيطان الشعر عند العرب
–حكاية شيطان مبدع
–شيطان الشعر الموريتاني
وقبل الشروع في الموضوع أنبه
إلى أنني اعتبرت إبليس والشيطان لفظان لكائن واحد اعتمادا على ورود ذلك في القرآن الكريم الذي هو المصدر الأول للغة الضاد قال تعالى ((فأزلهما الشيطان عنها ((البقرة –36))وقال تعالى :فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُوريٌَ عنهما من سوآتهما ((الأعراف–20)
……
— في الهوية
…..
طوى الإسلام صفحة الأوهام والتصورات الوثنية والأسطورية المتعلقة بالشيطان فعرفه وأوجب الايمان به وبين عداوته الأبدية للإنسان، منذ تحول من عبد صالح مقرب من الله (قرب عبادة ) إلى متمرد رافض لأوامره مطرود من رحمه آيس من رضاه
قال تعالى :
((إذقالَ ربكَ للملائكةِ إني خالقُُ بشرََامن طينِِ فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدينَ فسجد الملائكة كلهم أَجْمَعُونَ إِلاٌَ إِبْلِيسَ استَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرينَ قَالَ يا إِبْلَيسٌ مامنَعَكَ أنْ تَسْجٌدَ لِما خَلَقْتُ بِيدَيٌَ أسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنتَ منَ العَالِينَ قالَ أنَا خيْرُُ مِنْه خَلقتَني من نٌَارِِ وخَلَقْتَه من طِينِِ قالَ فاخْرجْ منْهَا فإنٌَكَ رَجِيمُُ وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين
سورة ص من الآية 71 وحتى الآية 78))
ورغم ما أصاب الكتب السماوية السابقة للإسلام(2) من تبديل فإن بعض المعلومات التي قدم القرآن الكريم
عن الشيطان مثل عناده ورفضه امتثال أوامر الله وعداوته للإنسان مذكورة في التوراة والإنجيل فهو ” satan” في التورات الكائن الخبيث الذي وسوس لآدم عليه السلام وأعلن الحرب على ذريته وهو في الإنجيل إبليس الذي تمرد على أوامر الله ، وأغوى البشرية وزين لآدم الأكل من الشجرة.
….. ….
–في الحضارات القديمة :
….
عرف الشيطان في الحضارات القديمة الوثنية، من بابلية وفرعونية، وآشورية وفارسية وهندية … باعتباره فكرة ذهنية تحيل على كائن متحكم في الكون قادر على جلب الشر وإذاية الإنسان، مما جعل إنسان تلك الحضارات يقدم له القرابين ثم يعبده دفعا لشره ثم تطورت الفكرة ليعبر عنها الإنسان بكائن خطيرلا يعرف حقيقته ولا يدرك كنهه، لكنه يؤمن بأنه يؤثر بصفة خارقة في الكون والإنسان ، سماه الجن وسمى زعماءه الشياطين
……………….
— في الأسماء:
……..
تدرجت معرفة الإنسان للشيطان من معرفة وهمية إلى معرفة أسطورية إلى أن عرفه معرفة ايمانية يقينية من خلال الكتب السماوية كما بينا سابقا .
وفي كل هذه المراحل ظل يطلق عليه اسما معينا فهو
ساج عند السومريين وهو أزازيل عند البابليين
و ا ديا بولوس Diapolos بالنسبة لليونانيين
وهو الشيطان وإبليس في الإسلام .
وهو satan “الشيطان
والحية عند اليهود.
وهو الملك طاووس عند الايزيديين .
وهو الشيطان وإبليس
في شعر العرب ومعاجم لغة الضاد .
….
— الحرب الشيطانية الكبرى :
……
لما تأكد الشيطان (إبليس ) بأنه أصبح مبعدا من رحمة الله بسبب تمرده الذي أوقعه فيه التكبر والحسد، أعلن الحرب على بني آدم وقرر التفرغ لايذائهم وجرهم لنفس المصير السيئ الذي توعده الله به، وقد بين القرآن الكريم ذلك الإعلان ووثقه أكمل توثيق ((قَالَ فبِمَ أَغْوَيْتَنِي لأَقعدَن لهم صراطَك المستقيِمَ ثمٌَ لآتِيٌَنهُم من بَيْن أَيْدِيهِم ومِن خَلْفِهمْ وعن ايْمَانِهِم وعَنْ شَما ئِلِهم ولاَ تَجِدُ أَكْثَرَهم شاكرين . الأعراف الآيتين 16 و17)
.ولا يستخدم الشيطان ( إبليس) ضدعدوه الإنسان أسلحة مرئية من نوع السيوف والرماح ولا دبابات أو طائرات وصواريخ
وإنما يستخدم ضده أسلحة من المكر والدهاء تفتك بذهنه ثم تتحكم في بنيته الفكرية. ولا مشاحة في أن من سيطر على ذهن خصمه؛ وتحكم في آليات تفكيره؛ وجهه الوجهة التي يريد.
…….
–الشيطان الحقيقي والشيطان المجازي :
………
منذ نشأ ت حضارة البشر
والشيطان جزء من بنيتها الفكرية فهو أول عدو للأب الجامع لبني الإنسان (آدم عليه السلام ) الذي استخلفه الله في الأرض وكلفه بإعمارها بعد أن خلقه منها كما هو مفصل في القرآن الكريم
وفي المراحل التي حكم فيها التفكير الأسطوري الوثني عقل الإنسان كان الشيطان عدوه المُتَخَيٌَلَ الخطير القادر على فعل كل ما هو سيئ
حضور الشيطان الواقعيٌُ والمُتَخٌََيٌَلَ في تفكير الإنسان وظفه هذا الأخير بصفة مكثفة في حقل الثقافة بمفهومها الواسع وفي تجليلتها الإجتماعية والفكرية .
والشيطان شيطانان أحدهما هو الشيطان الذي حدد القرآن الكريم هويته وثانيهما هو الشيطان المجازيُُ ويمكن أن نعبر عنه أيضا بالشيطان الفكرة أو الشيطان المتخيل الموجود في المخيال البشري وهو متعدد الأوجه والصور بحسب تعدد وتمايز الخلفيات الحضارية والأدوارالثقافية والاجتماعية التي يوظفه الإنسان للقيام بها.
كل شاعر وكاتب يصنع شيطانه الخاص به فشيطان أبي نواس –مثلا -متعدد الاهتمامات والمواهب: شاعر مبدع؛ وملازم للغواية خبيث الطوية من جهة. وهو فقيه عالم بالنوازل من جهة ثانية ،أما شيطان الشاعر الإنجليزي ملتون
(Milton)
فمتمرد متكبر في حين نرى شيطان الشاعر الروسي لرمنتوف مسكين ضعيف معرض للغواية وما يصدق على الشيطان
المجازي لدى الشعراء والكتاب والرسامين
وغيرهم من المنتجين في الحقل الثقافي والاجتماعي يصدق على الشيطان عند بعض الفرق والجماعات مثل جماعة الايزيديين
………..
–صورة تقريبية لشكل الشيطان:
……
من القصص والحكايات الشائعة التي تعبر عن عن شكل الشيطان في مخيال الإنسان ما روى الجاحظ أنه أسوأ تحد نفسي آلمه وأحرجه كثيرا .
وهو أنه التقى صدفة بامرأة ثرية في أحد شوارع بغداد فطلبت منه أن يسير خلفها فوقفت به على دكان صائغ للذهب فقالت للصائغ على صورة هذا ثم تركته وانصرفت فسأل الجاحظ الصائغ عن فحوى ماطلبت منه المرأة فقال له
هذه المرأة طلبت مني أن انحت لها صورة الشيطان على خاتم وفي رواية طلبت مني أن اصنع لها تمثالا للشيطان فقلت لها إنني لا أعرف ولم أره في حياتي فجاءت بك باعتبار شكلك يمثل صورة الشيطان
لقد كان الجاحظ دميم الخلقة
والحكايات عنه في ذلك السياق كثير ة
وانطلاقا من هذه الحكاية التي تختصر لنا الكثير عما تخيل الرسامون وكتب جل الشعراء والروائيون عن صورة الشيطان
يمكن أن نقول أن شكله
في مخيال الإنسان يتميز بالقبح
الذي يوحي بالرعب
والإغراب .
……
–شيطان الشعر عند العرب :
……..
إذا كانت الكتب السماوية (2) وجل الديانات والفلسفات الوضعية تجمع ، على صورة الشيطان السلبية التي تر مز لعداوة الإنسان والسعي الد ا ئم للايقاع به ؛ فإن صورته في الممارسة الشعرية العربية؛ هي صورة المٌلْهِم الذي لا غنى عنه للشاعر .وهذا التصور من الموروث الإنساني الذي وصل
المجتمع العربي الجاهلي ثم أصبح جزءا من معتقداته الراسخة ،وقد أملته الحاجة لتأويل مقنع للظاهرة الشعرية، حيث ربطها العرب بمحسوسين ذهنيين أدركوا نتائجهماو لم يعرفوا حقيقتهما ؛ هما السحر والجن، ومن هنا اختلقوا وادي عبقر (3) وحددوالكل شاعر شيطانا من الجن يلهمه هذا الكلام الذي سحر ألبابهم؛ و حير عقولهم لدقة وصفه للمشاعر؛ وخلجات النفوس .
لأن ظاهرة الشعر المبهرة –بالنسبة لهم — لا يمكن أن يصنعها غير كائن مبهر مثل الشيطان ؛ومن هنا كان مسحل بن جندل شيطان الأعشى، وهَبيد بن الصُّلادم شيطان عَبيد ابن الأبرص، ولافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس وهادر بن ماذر شيطان النّابغة الذّبياني
ونستخلص من ذلك أن علاقة الشيطان بالشعر؛ من الأوهام والأساطير التي ترسخت عند عرب العصر الجاهلي لاعتقادهم أن الشيطان يملك قدرات هائلة. تستطيع فعل مايعجز الإنسان عن فعله ، وقد وثق الشاعر النابغة الذبياني هذا التصور حين أسند للجن عملا معماريا رائعا يتمثل في بناء قصور وهياكل تدمر :
إلا سليمان إذ قال المليك له@ قم في البرية فاحددها عن الفند(
وخَيٌِسِ الجن أني قد أذنت لهم@ يبنون تدْمُر(4) بالصٌُفاح والعَمَد.
……
–حكاية شيطان مبدع :
……….
لقد وجد أدباء العرب الإخباريون
في علاقة الشعراء بالشياطين
مادة قصصية خصبة، فأطلقوا للخيال المجنح الحرية انتحالا واختلاقا لكنهم أتحفونا بحكايات أدبية طريفة، محكمة اللغة متناسقة الأفكار……
تقول إحدى تلك الحكايات:
إجتمع الأعشى وشيطانه فتحدثا كما يتحدث الرجل إلى خياله في المرآة.
قال الشيطان ولم يعرف الأعشى بنفسه: من أنت،
قال الشاعر: أنا الأعشى،
– قال الشيطان :حيَّاك الله أنشدني من شعرك
فأنشد الأعشى مطلع القصيدة:
رحلت سمية، غدوة، أجمالها غضبى عليك، فما تقول بدا لها؟
قال الشيطان: حسبك! أهذه القصيدة لك؟
–قال الأعشى نعم.هي لي
قال الشيطان من «سمية» التي تُنَسِّبُ بها؟
‘قال الأعشى :لا أعرفها، وإنما هو اسم أُلقي في روعي.
فنادى الشيطان: يا سمية، اخرجي! فإذا جارية خماسية خرجت، فقالت: ما تريد يا أبت؟
–الشيطان أنشدي عمك قصيدتي رحلت سمية
فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها، لم تخرم منها حرفًا، ثم انصرفت، فقال الشيطان للشاعر: هل قلت شيئًا غير ذلك؟
–قال الأعشى نعم، قلت قصيدة مطلعها ودع هريرَة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعًا، أيها الرجل؟
–قال الشيطان حسبك! من «هريرة» هذه التي نَسٌَبتَ بها؟
–قال الأعشى :لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها.
فنادى الشيطان: يا هريرة! فإذا جارية قريبة السن من الأولى. فقال لهااسمعي عمك قصيدتي ودع هريرة
فأنشدتها من أولها إلى آخرها، لم تخرم منها حرفًا.
قال الأعشى فسقط في يدي وتحيرت وتغشتني رعدة، ولكن الشيطان رَثَى لحالي ، فقال وهو يضحك: ماعليك أنا هاجسك الذي ألقى الشعر في قلبك وأجراه على لسانك .
…..
–شيطان الشعر الموريتاني :
….
يعرف الأدباء الموريتانيون الممارسة الشعرية قد تتداخل مع بعض المحظورات التي يزينها الشيطان للشاعر مثل الغزل الفاحش المثير للشهوة المحرمة ومثل الهجاء الذي ينتهك أعراض الناس ومع ذلك حظي لديهم بمكانة عاطفية وجمالية كبيرة جعلته جسر العواطف ورمز الحب ومِلْحَ الهوى وعنوان الجاذبية بين الرجل والمرأة
تارة يخاطبونه باسم” العود “:إبليس “و”الشيطان “وتارة يطلقون عليه مختلف الكنى مثل انكراد واللعين ولعور والدجال تماما كما يكنون آبآهم وأشياخهم
وقد قلت قبل سنوات في نظم بعنوان “اكليع لبهار في قضايا التسدار “كنت عقدت فيه فصلا خاصا بإبليس :
أسماؤه انكراد ثم لعور @
إبليس والشيطان هو الأشهر
لقد وظف الشعراء الموريتانيون
الجاذبية الشيطانية التي منح المجتمع للمرأة أجمل توظيف وذلك من خلا ل درر شعرية اخترت منها نصين لَهَجِييٌَيْنِ
راصِك يغْلَ غيدات النٌِيلْ @
ماج من عند الراص اطويل @
و اكلامك خاسر واكَـلييل @ والتوتِ تحصيل الحاصل.
غير الا يسبت لكتيل@
يكَطعْ بابليس أثرو فاصل.
فمنادم راصو ماهْ اطويل @ وأكلامو ماهُ متفائل.
وفي نفس السياق يقول آخر(5)
كط اكرظلي يلمولع بيك @
فيك اللعين النوبَ ذيك@
واكرظلي دار الموج اعليك @
بالمارَ دار الملاهي.
واكرظلي نوبت فصك اعليكْ@
فيك أعنه ماني ساهي .
واكرظلي فيك أيـــام امجيك @ يغْلَ لريـــــام الْ دلاهي
أمزالْ الاٌَ يكرظلي فيك@ عليــــــــهِ لعنــــــــةُ اللـــهِ
ورغم أن كلمتي اللعين وعدو الله تدينان الشيطان وتعبران عن
شخصيته المعادية للإسلام
فإن الشاعر–على عادة التوظيف الأدبي لعدو الله (الشيطان ) — أوردهما في سياق الامتنان له وتذكيرالمتغزٌَل بها بأنه مازال وفيا لرابطتهما العاطفية التي نسج
……..
المصادر والمراجع
(1)– لسان العرب مادة شَطَن
(2) الكتب السماوية التي نزلت على الرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم يجب على المسلم أن يؤمن بأنها من عند الله ولا يجوز له أن يستدل بها لأنه ملزم بإلإسلام فقط
(3)–وادي عبقر هو واد تخيله العرب قديما وزعموا أن شعراء الجن يقيمون فيه وأن لكل شاعر عربي شاعر جني من شعراء هذا الوادي يلقنه الشعر ويجريه على لسانه
(4 )– تدمر مدينة أثرية سورية سكنها الكنعانيون والعموريون والآراميون منذ ثلاثين قرنا (ثلاثة آلاف سنة )قبل الميلاد
ومنذ القرن الميلادي الثاني
حكمتها أسرة عربية من أشهر ملوكها أذينة الأول والملكة زنوبيا وهي ميسون بنت عمر و بن السٌَمَيْدَع
(5)- أكد لي الباحاث محمد سالم ولد عبد الرحمن ولد مولود أن قائلها هو الأديب والعلامة الكبير محمد سعد بوه ولد آدٌَ رحمه الله .