عودةُ الفتى الظاهرة جمال ولد الحسن من تونس بشهادة التبريز في الآداب ــ وهو ما يزال في العشرينات من عمره ــ ليحظى بكرسي الدراسات الإنسانية الأول في بلادنا، مثَّلتْ يومها ذاك نقطةَ تحول بارزةً، ليس على مستوى الوعي الثقافي والأدبي وحسبُ؛ وإنما على مستويات أعمق من ذلك وأبعد أثرا، لعل من أهمها إعادةَ الثقة المهزوزة في "الأنا" الشنقيطية، بعدما أصابها من الضآلة والتقلص والضمور جراء عودة البعثات الطلابية من الغرب والشرق...
عادت البعثات القادمة من الغرب حاملةً معها مشروعا مغايرا لتلك الأسس العقدية التي ظلت على مر العصور تمثل المرجعية الفكرية لبلاد شنقيط... عادت لتُرتِّل على هذه الكثبان الرملية التي تعتبرها (أرضا غير مكتشفة) رومانتيكية Victor Hugo وde Musset و Lamartine
وعادت القادمةُ من الشرق، خصوصا من بلاد الكنانة، وهي تعتقد أنها ستستصحب معها أضواء المسارح القاهرية إلى هذه المضارب التي ماتزال ترى فى سوق عكاظ وذي المجاز مثلا أعلى، في مجالات الأدب والنقد والإبداع... عادت لتقول للشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا: إنه عندما أنشد قصيدته:
يا معشر الشعراء هل من لوذعي ... يهدى حجاه لمقصد لم يبدع
إني هممت بأن أقول قصيدة ... بكرا فأعياني وجود المطلع ....
ــ إنما قال ماقال لكونه لم يطَّلِع على الشوقيات، وما قرأ للبارودي وحافظ إبراهيم... وأن سؤاله من السطحية بحيث لا تجوز مقارنته بأسئلة أبي ماضي الوجودية الجوهرية! عادت لتُحِلَّ تقاسيمَ عود محمد عبد الوهاب محل أشوار "بلغامَ" لولد بوبه جدو، ولِتُقنع سدات ولد آب بضرورة التحول إلى "عندليب أسمر" ولتنصحَ تكيبر منت عمر امبارك باستبدال طرف ملحفتها من "التاج" بمنديلٍ كذاك الذي تلوح به كوكب الشرق أم كلثوم!
عاد الفريقان وهما يحملان رؤيتين مختلفتين من حيث الاتجاهُ والغايةُ، وربما كذلك من حيث الوسيلةُ وآلية التنفيذ؛ ولكن الهزيمةَ النفسية، وانعدامَ الثقة في كل ما تُنبته هذه الصحراء كانت القاسمَ المشترك بين البعثتين، والسمةَ البارزة التي تجمع بين الرؤيتين...
لذلك كانت عودة الفتى الأديب الناقد والشاعر الفذ والمثقف الموسوعي المرحوم جمال ولد الحسن إلى البلاد ضرورةً تاريخية، لإعادة التوازن إلى الثقافة الشنقيطية التي تجاهل الفريقان أهمَّ خصوصياتها، وهي كونها ثقافة عربية قحة، حافظت على جزء كبير من الثروة اللغوية العربية والأصالة الإسلامية، حين فرط فيها الكثيرون، رغم أن علاقة الشناقطة بالأعاجم ردَحا من الزمن ــ بحكم العامل الجغرافي ــ كان أقوى من علاقتهم بسائر البلاد العربية...
عاد جمال ولد الحسن ليربِّت على كتف الثقافة الشنقيطة والمحظرة الشنقيطية، وليقول للمنهزمين من الفريقين إن الدعوة إلى التجديد في القصيدة العربية صدرتْ أولَ ما صدرتْ من بلاد شنقيط، وأن قصيدة الشيخ سيدي محمد الآنفة الذكر مثلت باكورةَ تلك الدعوة...
بدأ المشروع الثقافي والأدبي للمرحوم جمال ولد الحسن في تونس ببحثه القيم عن: (أسلوب محمد بن الطلبه) ثم تعمق هذا المشروع في أطروحته للدكتوراه (الشعر الشنقيطي في القرن 13هـ) وكانت محاضراته في المؤسسات الجامعية في نواكشوط، والتي ظلت تستقطب جموع الطلاب والدارسين ميدانا فسيحا لعرض ذلك المشروع الذي ينتهض على أساس إعلاء دور الشناقطة في النهضة الأدبية العربية، مع الاعتراف بجهود كل العرب وأدوارهم في صناعة تلك النهضة...
انتُدِب الدكتور جمال ولد الحسن لتدريس الأدب العربي الحديث في المعهد العالي، فتنقل في محاضراته بين الرواية والقصة والمسرح والنقد والشعر وفقه اللغة والألسنيات، بلغته القحة وسليقته المعهودة وأسلوبه الآسر وموسوعيته النادرة، فابتسم الحظ لنا لسنوات أربعِ بصحبة نابغة من نوابغ الفكر فذٍّ، وجهبذ موسوعي عزَّ له نظير.
كان رحمه الله متواضعا كريما سمحا تقيا، لم تُغْرِه الشهرة التي تلقفته صغيرا بالتكبر أو التطاول، ولم يَغُره ذيوع الصيت ليتخذ برجا من العاج؛ وإنما ظل خلوقا يستوقفه الطلاب في الدهاليز، ويجيب على أسئلتهم بابتسامته المعهودة وأريحيته الطبعية.
صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في الأربعين من عمره في مثل هذا اليوم من العام 2001 في حادث سير أليم في الإمارات العربية المتحدة، حيث كان يعمل محاضرا جامعيا هناك.
رحم الله أستاذنا النابغة جمال، وأسكنه فسيح جناته.
محمد الراجل يوباه