محمد يسري
المصدر: رصيف 22
في الثالث من مارس عام 1924، قام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة العثمانية، معلناً بذلك إسقاط واحدة من أهم الوظائف السياسية-الدينية التي ظلت صامدة على مدار ما يزيد عن 13 قرناً من الزمان في ديار الإسلام.
منصب الخليفة الذي حظي بمكانة خاصة عند جميع المذاهب والفرق الإسلامية، وُضعت له شروط وتنظيرات فقهية معقدة عند أهل كل مذهب، وكانت فكرة النسب من أهم تلك الشروط على الإطلاق.
ولكن تاريخ الخلافة كان تاريخاً من التباين بين المبادئ النظرية وبين تطبيقاتها العملية على أرض الواقع.
أهل السنة والجماعة... شرط القرشية
بحسب ما ورد في كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للماوردي، فإن عموم المسلمين من أهل السنة والجماعة، يعتقدون بأن هناك شروطاً معينة ينبغي أن تتوافر في شخص الخليفة، ومن أهم تلك الشروط على الإطلاق شرط النسب العربي القرشي.
بحسب بعض الأحاديث النبوية الواردة في كتب أهل السنة المعتبرة، ومنها مسند أحمد بن حنبل، يُنقل عن الرسول تأكيده في عدد من المناسبات على أحقية عائلات قريش بهذا المنصب دوناً عن غيرها من القبائل العربية.
وتذكر مصادر تاريخية إسلامية، منها "تاريخ الرسل والملوك" للطبري، أن المهاجرين استغلوا هذا الشرط في دعم شرعية مطالبتهم بالسلطة أمام الأنصار في اجتماع سقيفة بني ساعدة، والذي عُقد عقب وفاة الرسول مباشرة لاختيار خليفة له.
طوال حقبة الخلافتين الراشدة والأموية، لم يُثَر أي سجال يُذكر بخصوص قاعدة الأصل القرشي للخليفة، ذلك أن كل الخلفاء الذين حكموا في تلك الفترة كانت أصولهم تعود إلى بطون قبلية قرشية بشكل واضح.
التأثيرات العرقية غير العربية بدأت في التأثير على السلطة بدءاً من لحظة تدشين الخلافة العباسية عام 749.
فالعباسيون، في بداية دعوتهم، اعتمدوا على كسب ولاء الفرس كعنصر ثوري يُضمر الغضب والسخط تجاه الطبقة العربية الحاكمة، وكان من الطبيعي أن تنال العناصر الفارسية حظوة كبيرة عند خلفاء بني العباس، حتى صار بعضهم من أمثال أبي مسلم الخرساني وأسرة البرامكة بمثابة المدبرين الفعليين لشؤون الخلافة في أزمانهم.
بعد وفاة الخليفة هارون الرشيد عام 808، واندلاع الحرب الأهلية بين أنصار ابنيه الأمين والمأمون، لحق تغيّر مهم ببنية السلطة، ذلك أنه جرى التعامل مع الخلاف الأسري بين الشقيقين بشكل عرقي-قومي، فانحاز أكثرية العرب للأمين لكون أمه زبيدة عربية، بينما وقف أغلب الفرس مع المأمون، لكونه ابناً للرشيد من إحدى الجواري الفارسيات.
بعد انتصار المأمون في تلك الحرب، مال فترة إلى الجانب الفارسي، فاتخذ من مدينة مرو بخراسان عاصمة له، ومكث بها بعض الوقت، قبل أن يستجيب لضغوط أهله من العباسيين ويعود أدراجه إلى عاصمة أجداده في بغداد.
بعد وفاة المأمون عام 833، تحرّكت بوصلة العرقية مرة أخرى، ولكن تلك المرة تجاه العنصر التركي، ذلك أن الخليفة الجديد المعتصم بالله والمولود من جارية تركية الأصل، وجّه أنظاره صوب آسيا الوسطى والشعوب التركمانية التي تقيم بها، فاتخذ منهم جيشاً، وعيّن العديد من كبرائهم في مناصب رفيعة في الدولة.
ومع مرور الوقت تسلط القادة الأتراك على الخلافة، إلى الحد الذي حدا بهم، عام 861، إلى قتل الخليفة المتوكل على الله وتنصيب ابنه محمد المنتصر بالله بدلاً منه.
خضوع الخلفاء لغير العرب
بدايةً من النصف الأول للقرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وقع تغيّر جذري في العرق الحاكم والمسيطر في الدولة الإسلامية، وذلك عندما وصل ضعف الخلفاء العباسيين إلى مرحلة غير مسبوقة، ما اضطرهم إلى الخضوع لسلطة أسرة فارسية الأصل، تعرف بالبويهيين.
تقاسم البويهيون الفرس السلطة مع العباسيين، فصار لهم الحكم الفعلي لدولة الخلافة واتخذوا لقب السلاطين، بينما اقتصر دور الخليفة على السلطة الاسمية ليس أكثر.
في القرن الحادي عشر (الخامس الهجري)، ظهرت قوة السلاجقة الأتراك، فحلوا محل البويهيين، وبقي الخليفة العباسي على حاله داخل قصره في بغداد.
وفي عام 1063، وللمرة الأولى في تاريخ الخلافة السنية، وافق الخليفة العباسي القائم بأمر الله، مجبراً، على تزويج ابنته من السلطان السلجوقي طغرلبك، والذي ربما كان يطمح وقتها لتأسيس أسرة حاكمة جديدة، يختلط فيها العرق التركي بالعرق العربي، ولكن طموحاته آلت إلى الفشل بعد أن توفي دون أن يترك وريثاً له.
وفي 1258، دخل المغول بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله، وبعد بضع سنوات استقدم السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أحد أفراد البيت العباسي إلى القاهرة، ونصبه خليفة جديداً للمسلمين ولقّبه بالحاكم بأمر الله.
الخطوة التي قام بها بيبرس في ذلك الوقت، من الممكن أن نفهمها في سياق محاولة إضفاء الصبغة الشرعية على الحكم المملوكي، خصوصاً أن المماليك السنّة لم يكن بوسعهم ادعاء الخلافة، نظراً لأصولهم العرقية غير العربية، ولكونهم كانوا بالأساس عبيداً مجهولي النسب.
دخول المغول بغداد
حال الخلفاء العباسيين في القاهرة لم يختلف كثيراً عن حال أسلافهم في عصري البويهيين والسلاجقة، فقد كانوا مجرد رموز لا أكثر، واقتصر دورهم على التصدي لإمامة الصلاة والظهور في المحافل الدينية أمام العامة.
ثم وقع تغيّر مهم في جدلية الخلافة والعرق الحاكم، عام 1517، وذلك عندما استطاع السلطان العثماني سليم الأول الانتصار على المماليك في موقعة الريدانية، وأجبر المتوكل على الله الثالث على التنازل له عن منصب الخلافة، ليصير أول خليفة تركي الأصل في تاريخ الأمة الإسلامية.
واستمر توارث لقب الخليفة بين أبنائه وأحفاده حتى قام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية بشكل نهائي في الثالث من مارس 1924، فكان عبد المجيد الثاني هو آخر الخلفاء العثمانيين.
الشيعة... العلوية شرط للإمامة
يتفق الشيعة بجميع فرقهم وطوائفهم على أن منصب الخلافة ينبغي أن يقتصر على الأئمة المتحدرين من سلالة علي بن أبي طالب. وفي حين يوسع الزيدية دائرة الاختيار لتشمل كل علوي تتوافر فيه الشروط اللازمة لذلك المنصب سواء كان من الفرع الحسني أو الفرع الحسيني، فإن الإمامية الإثناعشرية حصرت منصب الإمامة في شخوص 12 إماماً محددين، آخرهم الملقّب بالمهدي يعتقدون بأنه غائب وسيعود لينشر العدل على الأرض. أما الإسماعيليون، فيقصرون الاعتراف بالأئمة على المتحدرين من إسماعيل بن جعفر الصادق.
البويهيون الفرس كانوا يعتنقون المذهب الشيعي، ولكنهم اكتفوا بإعلان سلطنتهم دون الدعوة إلى الخلافة قط، لأن منصب الخليفة أو الإمام محصور بالإمام المهدي الغائب.
أما الخلافة الفاطمية الإسماعيلية، فتحوم الكثير من الشبهات والشكوك حول أصول مؤسسيها. فبحسب ما تذكره العديد من الكتابات التاريخية السنية، ومنها على سبيل المثال البداية والنهاية لابن كثير، فإن مؤسس تلك الدولة، عُبيد الله المهدي، لم يكن من نسل علي بن أبي طالب كما روّج وأشاع وقتها، بل من نسل ميمون القداح، الذي يُعتقد أنه من أصول فارسية.
وفي الحقيقة، فإن أمر إثبات حقيقة أصول الفاطميين يبقي أمراً من الصعوبة بمكان، لأن أغلبية الكتابات التاريخية التي تناولت تلك المسألة ظهرت في سياق منافسات مذهبية وسياسية قوية.
الدولة الشيعية الثالثة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي كانت الدولة الصفوية التي تم تأسيسها مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي العاشر (الهجري).
لم يدّع الصفويون لقب الخلافة كما فعل منافسوهم من العثمانيين، وذلك بسبب العقائد الشيعية الإثناعشرية التي تقرّ بحرمة رفع راية الخلافة قبل قدوم المهدي المنتظر.
مع ذلك، فإن الصفويين عملوا على صبغ دولتهم بالشكل الديني، فاستقدموا عدداً من العلماء الشيعة من البحرين وجبل عامل (جنوب لبنان) إلى دولتهم، وأشركوهم في شؤون الحكم والسلطة، وكان من أشهر هؤلاء العلماء المحقق الكركي.
ومثلهم مثل باقي الأسر الإسلامية الحاكمة، عمل الصفويون على انتحال النسب القرشي العلوي، فروّجوا لتحدرهم من ذرية موسى بن جعفر الصادق، وهو الإمام السابع في سلسلة الأئمة الشيعة الإثناعشرية. ولكن مع ذلك، يبقى الجدل حتى هذه اللحظة دائراً حول حقيقة أصولهم العرقية، وأغلب الظن أنهم يعودون إلى أصول فارسية أو تركمانية أو كردية.
الخوارج... عدم الالتفات لشرط العرقية
يُعتبر الخوارج بمثابة الضلع الثالث والمتمم في مثلث السياسة الإسلامية على طوال ما يزيد عن 14 قرناً من الزمان.
الخوارج هو الاسم الأكثر شهرة وتواتراً للفرق التي رفضت الخضوع للسلطات الحاكمة في زمانها، وامتنعت عن الاعتقاد بالنظرية الشيعية في مقاومة الدولة من إيمان بمخلص علوي موعود.
بحسب ما يذكر الشيخ بكير بن سعيد أعوشت في كتابه "دراسات إسلامية في الأصول الإباضية"، فإن نظرية الخوارج في ما يخص الحكم تبلورت في عدم الأخذ بالاعتبار لشرط الأصل العربي أو القرشي في اختيار الخليفة أو الحاكم، موسّعين نطاق الاختيار ليشمل كل مسلم قادر على تحمل أعباء الإمامة دون النظر إلى عرقه أو لونه.
إذا ما رجعنا إلى تاريخ فرق الخوارج المختلفة منذ لحظة ظهورهم الأول على مسرح الأحداث التاريخية في موقعة صفين عام 657 (37 للهجرة)، وحتى نهاية القرن الأول الهجري، لوجدنا أنهم حافظوا على تلك المبادئ بشكل نسبي، ذلك أن معظم زعمائهم في تلك الفترة كانوا من بين القبائل العربية البعيدة نسباً وقرابةً عن قريش.
فمثلاً كان أمير الخوارج في موقعة النهروان هو عبد الله بن وهب الراسبي الذي يعود إلى قبيلة الأزد اليمنية، وكان قطري بن الفجاءة، أحد أقطاب الخوارج المعروفين، من قبيلة بني تميم، أما نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر، وهما مؤسسي فرقتي الأزارقة والنجدية على الترتيب، فقد كانا من بني حنيفة.
في أواسط القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، اثبت الإباضيون، وهم من أهم الفرق التي تُحسب على كونها خارجية المذهب، إخلاصهم لمبادئهم السياسية التي لا تركن إلى شرط النسب العربي في اختيار الحاكم، عندما بايعوا عبد الرحمن بن رستم ذا الأصول الفارسية، ليصبح أول إمام لهم في دولتهم التي عُرفت بالرستمية، والتي سيطرت في ما بعد على مساحات شاسعة في بلاد المغرب العربي.
في الوقت نفسه تقريباً، تكررت التجربة الخارجية في دولة بني مدرار بسجلماسة، جنوب شرق المغرب الأقصى، إذ يذكر خير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام"، أنه عند تأسيس تلك الدولة، قام الخوارج الصفريون بمبايعة عيسى بن يزيد الأسود، والذي يغلب الظن أنه كان يعود إلى أصول إفريقية سوداء ليكون إماماً لهم.
ولكن تلك التجربة لم تحظَ بالنجاح الذي حظيت به تجربة الرستميين، لأنه ومع مرور الوقت وتوافد الكثير من البربر إلى سجلماسة، رفضت العناصر الوافدة، ذات البشرة البيضاء، أن يحكمها رجل أسود اللون، فثارت عليه وقتلته عام 771 (155 للهجرة)، بعد 15 عاماً من حكمه له