هذا حبيب زوجتي...

أحد, 02/16/2025 - 14:05
المرتضى محمد أشفاق

المرتضى محمد أشفاق

 

ظلت حركة الزوارق الصغيرة بطيئة، وهي تغالب رياحا شرقية مبللة بآثار المطر..

تسابق الحمالون إلى الأكياس الثلاثة..وعلى أصوات التجديف شرع البحاران الصغيران يغنيان...

لفتت نظره ربوات الطماطم، والبطاطس، والجزر، وقبائل شتى من الخضار تعبث بها ماعزة الضفة اليمنى...

عامان ونصف قضاهما في قرية نائية على حدود (كامبي)..أغرته الأرباح السريعة بالبقاء، وكاد ينسى عائلته الصغيرة، وبيتهم المعدل حديثا من ريع الأرباح...

اشتاق إلى ولديه الصغيرين، وإلى زوجه، وقريته الهادئة المتربعة على سهل أبيض، بين كثيبين بلون الفستق البري...

حمل حقائبه الثلاث، تحسس الهدايا التي سيفاجئ بها زوجه وطفليه..

رتب كل شيء، وسجل جدول زياراته..وزع الأيام بعدل بين محطاته المختلفة..

كان الوقت هزيعا في تلك الليلة الشتوية القارسة، لم تبق من ديسمبر إلا بضع ليال..

نقر على حاوية البطانية الجديدة..وشم في زهو طفلي رائحة المصانع..

انتهت معركته مع حظائر السياج، التي أدمت ساقيه، ومزقت ثيابه، وضللته طويلا..

بدأ الليل يتثاءب، والنجوم تأوي إلى مهاويها، ارتفع صياح الديكة، وهدأت فورة نباح الكلاب...

مال قليلا إلى بيت صديقه، كان مستيقظا، تستهلكه بقية سيجارة..تعانقا، ذابا في مفاجأة اللقاء..حملا الحقائب..سمعا صوت أغنية: (رمت الفؤاد مليحة عذارء..)

تنبعث من بيته..

قرب نافذة البيت الشرقية جلسا..اقترب الرجل أكثر..صار الحديث أوضح: (هذا شعري، غنته لي فنانة عربية لأنك تستحقين كلمات لا كالكلمات، وأنغاما لا كالأنغام، وحنجرة لا كالحناجر...)..

ذكره المقطع الغنائي بأيام مراهقته،

عندما كان قارئا نهما، يقرأ كل شيء حتى البيانات المرسومة على قوالب السكر..

ذكره بقصة(البديل)، التي كان فيها رب عمل يشغل أحد موظفيه طوال اليوم ليخلفه في بيته..

وتذكر أنه قرأ صفحات من قصة منزوعة العنوان أن طبيبا له ثلاثة أصدقاء متزوجين، ولهم أطفال، وحياتهم هانئة وهادئة، لكنهم ظلوا منزعجين من بقاء صديقهم الطبيب أعزب، وهو رجل محترم، وميسور الحال، كانوا يلحون عليه في الزواج، ليسعد ببيت وزوج، وأطفال مثلهم..ظل الطبيب، يتجاهل إلحاحهم، ويبقى في صمته المدمر..مات الطبيب قبلهم جميعا، وترك وصية لأصدقائه، تسلمها لهم كاتبته الخاصة مجتمعين، ولما فتحوها، قرؤوا فيها: (أصدقائي الأعزاء، الآن ستعذرونني في عزوبتي، أنا مع الأسف ضاجعت زوجاتكم الثلاث...)

دفعا الباب، وهو نصف مغلق، دلفا..لم يستطع زائر الفجر الكاذب المغادرة..كل المنافذ مسدودة..

أخرج مصباحه اليدوي، صوبه إلى الضيف(الثقيل)، ثم إلى وجه زوجه المنكسر، وهي تحاول إعادة ترتيب شعرها المبعثر، صوب المصباح إلى الطفلين الملفوفين في بقايا أطمار...

سأله صاحبه متغابيا عن ضيف بيته، فأجابه: وهو يتذكر أنه أنكر لون بشرة طفله الصغير، وكان يهرب من شكه إلى (العرقُ قتَّاتٌ)، فيستريح على كره..

رد على صديقه: يا سلام! أليس الأمر جليا؟ هذا حبيب زوجتي..

ابتلع صديقه ريقه، وابتلع معه عبارة كبحها خلف أضراسه: أيهم، فهم كثر؟.