إعلان

سمرات الحي وأخواتها

أربعاء, 09/06/2023 - 17:53

أدي آدب

 

 

 

"وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن الْعُزَّى كَانَت ثَلَاث شجرات من سمر" ، ويبدو أنه كان لجل الأحياء العربية البدوية، منذ قديم الزمان، شجرات خلف الخيام، يتواعدها العشاق المرصودون، في غفلات الرقباء، ويبوحون تحتها بمكنون اللوعات، والرغبات، ويشكون عندها مستعصي الأزمات، ويكادون يُذْوُون نضارة أوراقها بلوافح مكبوت الآهات والزفرات، لولا ما يسفحون هناك من العبرات... ففي قصة الأشتر وجيداء أنه حين حاول الحصول على موعد منها عن طريق جاريتها، قالت له: (هي مُشَدَّد عليْها، مُحْتَفَظٌ بها، وعلى ذلك فموعدكما عند الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت، مع صلاة العشاء)

ولعل أقدم هذه الشجرات الطللية تسجيلا في تاريخ الشعر، هي سَمُرَات الحي، التي وقف عندها امرؤ القيس الملك الضليل، الذي يعتبر- في نظر النقاد- ملك الوقوف على الأطلال، حيث روي عن الأصمعي قوله عن مطلع معلقته:

(لامرئ القيس بيت لم يسبقه إليه أحد، ولا ابتدأ بمثله شاعر، وقف فيه واستوقف، وبَكَى واستبكى، وذكر الأحبة والمنازل، وَوَصَفَ الدّمَنَ) ، رغم أنه كان- باعترافه الشخصي- مقلدا ما نهجَهُ قبله ابن حذام سلفه الأقدم، فقال

كأَنِّي غَداةَ البَينِ يَومَ تحمَّلُوا...لدى سمرات الحي ناقف حنظل

فهذه السمرات بمثابة "حواء" شجرات الأطلال، مادام امرؤ القيس بمثابة "آدم" شعرائها العرب المعروفين، فقد سقى تلك السمرات الرابضة على مشارف حي محبوبته المترحل بعبرات منهمرة، حولتْ لوعةُ الذكرى مسْكوبَها إلى عُصارةٍ مَريرة، حيث تتماهى لوعة الفراق، ومرارة مشاهد البين، مع تفتيت الحنظل، فمرارتهما معا تستدر دموع كل من الناقف، والشاعر العاشق، إلا أن الشاعر يرى تلك العبرات –على مرارتها- علاجا شافيا لوجده المستثار:

وإن شفائي عبرة مهراقة... فهل عند رسم دارس من معول؟

وقد توالدت من سمرات الحي عند امرئ القيس، سمرات أحفاده من الشعراء، عبر اختلاف الزمان والمكان، فالشريف الرضى الموسوي يقول:

ألا هل أطرقُ السمراتِ يوْما ... بريء القلْبِ من عبَثِ الهُمُومِ

وأُلْصِقُ بالنقا كبِدِي، ويهْفو ... علَيَّ من النقا ولَعُ النَّسيمِ

ومن سمرات النقا في المشرق، إلى سمرات الأندلس، في المغرب، مع أبي محمد بن القبطرنة:

راعها لمَّا التقيْنا ... ما درتْ من فَتَكاتي

عثرتْ ذعْرا، فقُلْنا: ... لا لعًا لِلْعَثَراتِ

ضحكتْ عُجْبا، وقالتْ ... لأخَصّ الفَتَيَاتِ:

راجعيه، ثم قولي: ... ائْتِنَا في السَّمُرَاتِ

وارقب الأعداءَ، واحذرْ ... للعيونِ الناظراتِ

فإذا أعلقَ فيها النوْ ... مُ أشراكَ السِّنَاتِ

وعلا البدْرَ جَلابيـ ... بُ لباسِ الظُّلماتِ

فاطرقِ الحيَّ، تجِدْنا ... في ظُهورِ الحُجُراتِ

فالتقيْنا، بعْد يأس ... بدليلِ النفحَات

وأخيرا انتهت رحلة "سمرات الحي" المُنَدَّاةُ بعبرات الشعراء، والمثمرة بالعِبَر، إلى أقصى أقاصي المغرب العربي، في بلاد شنقيط، حيث ربط عبد الله بن سيدي محمود، بحسه اللغوي الشنقيطي الأصيل، بين هذه السَّمُرَاتِ والسَّمَرِ، والسامرين:

قدْ توالتْ زفراتي ... واسْبَطرَّتْ عَبَراتي

حين أبصرْتُ ربوعا ... بتلاعِ الفْيتناتِ

وتذكرْتُ سَمِيرا ... عِندَ تِلكَ السَّمُراتِ

وما دامت السيالات مرادفة للسمرات، فهناك شاعر آخر يتتخذها رمزا لمحبوباته، ويخصهن- دون جميع شجر السيال، بسلامه المشحون بالحب:

ألا يا سيالات الرحائل باللوى ... عليكن من بين السيال سلام

وإذا كان شجر السمر العربي يقابله في لهجتنا الحسانية الطلح، وهما معا من فصيلة واحدة، فهذا الشاعر محمد الأمين ولد فتى، يرفع نجواه مع نفسه، حول "طلحاياته" الطللية، التي يتستر أن يتسرب صدى تعلقه بها إلى طلل آخر اسمه"جِمِجَّار:، خوفا من غيرته ووشايته بهذا السر الخطير لطلل "أم أكنتور" التي هي سيدة الأطلال المرهوب جرح خاطرها:

عوْدانْ الطَّلْحايَ فگْفاكْ ***شطْنكْ يعگلِ غيْرْ ارْعاكْ

من تِسْميهَ مزالْ احْذاكْ*** جِمِجَّارْ افطَن جدْرْ اعْدُ

كانْ اسمعْ عنكْ ذاكْ وراكْ:: اعْلَ ام اگنتورْ ارِدُّ

وذيكْ ايلَ سمْعتْ عنك ذاكْ ::ذاك اعودْ اكبرْ من گدُّ

وفي الشعر الحساني الحديث، تستوقف شجرة الأصالة (طلحاية لرزك ول امبي) في تامورت النعاج بتكانتـ الشاعر بوكة بن حبيه(سيد أحمد)، حيث فرح- بعد الغربة الطويلة- بمعانقة وطنه عموما، وأشجار موطنه المحبب خصوصا، وشجرة الطلح تلك بصورة أخص، فقال:

كالحمد الي عاكب دوبي

والدوحه والتشباش اشوي

جيت ال وكرك والحكت حي

صدرو بتمام ؤذيكيه

طلحاية لزرك و ل امبي

يبوكه مزالت حيه

وغير بعيد من السمر والطلح تتنزل اسديريت البيظ في قلب (سيد امحمد بن محمد لحوار بن آدب)

ذى سديريت البيظ الْ طيْتْ ؤُقَيْتْ، آن والل عـزَّيْتْ

افظلْ اظْحَـــــــاهَ، واللِّ ريْتْ منهَ مَسْتَكْصَفْ، نشْهَدْهَ

وانفقدَتْ هــــــــيَّ، واللِّ تَيْتْ اخْــــــلاكِ بيهْ انْهَمَّدْهَ

عودانِ فــــــــــــمْ إِلى وَلَّيْتْ انْـــتَمْ انْشُوفْ- ؤنُجْحَدْهَ-

ابْلَدْ كعْدَتْهَ، واسْـــــــــدَيْرِيتْ البَـــــيْظ امَّلِّ فبَلَـــدْهَ

فهذه الشجيرة المصغرة تصغيرَ تعظيم وتحبُّبٍ، يقف الشاعر عندها مليا، مستعيدا ذكرى لقاء خاطف- في ظلها ذات ضحوة- مع تلك التي أحبها، ثم فقدها، ولم يبق له من ظلال ذلك اللقاء الزائل، الماثل، إلا أن يطوف بهذه الشجيرة بين الفينة والأخرى، فيلقي نظرة على موقع جلستها من الأرض، وهو يكاتم شعوره تجاه ذلك، وكأنه يريد ولا يريد أن يقول مع سلفه كثيرعزة:

ومُسَّا تُرَابًا كانَ قدْ مسَّ جِلْدَها*** وبيتا وظلا حيث باتت وظلت