الرواية الموريتانية من التجاهل إلى التتويج

اثنين, 03/08/2021 - 14:09

 

أحمد ولد إسلم

 

مع مطلع العام الحالي 2021 يمكن القول إن الرواية الموريتانية بلغت أشدها، فقد كان بعد الشقة وضعف التواصل وترحال ساكنة فضاء الأرض السائبة – كما كانت تسمى قبل إطلاق اسم موريتانيا عليها - بعض العوامل التي أخرت ميلاد أول رواية موريتانية منشورة.

 

وعام 1981 كسر الشاعر والمناضل السياسي اليساري أحمدو ولد عبد القادر جدار الخوف من هذا الفن الوافد، ونشر روايته الأولى "الأسماء المتغيرة".

 

كانت تلك الرواية فاتحة خير على هذا الصنف الأدبي الذي ترافق وصوله مع بداية الاستقرار "التمدني" للعدد الأكبر من سكان موريتانيا، وربما يمكن القول إن تأخر الرواية وانتشار الشعر في ذلك الفضاء كان مرتبطا بإشكالية الاستقرار.

 

فالشعر بطبيعته الموسيقية سهل التداول حفظا وإنشاء وإنشادا، ولا يحتاج متسعا من المكان ولا الزمان، على نقيض الرواية التي لا يمكن أن تنقل تفاصيلها بحرفية بين المتداولين شفهيا.

 

ومع كسر ذلك الجدار، توالت روايات للكاتب نفسه، لم تخرج في معظمها عن سياقات الأسماء المتغيرة، فكتب "القبر المجهول" ثم "العيون الشاخصة" ليسلم الراية لغيره، ويعود إلى محراب الشعر الذي لم يستطع إطالة الغياب عنه.

 

ومع منتصف العقد الأخير من القرن الماضي وتحديدا عام 1996 كانت الهزة الأولى للوسط الثقافي الموريتاني، بأول رواية مكتملة الأركان لغة وأسلوبا وشخوصا، رواية نشرت قبلها بسنوات باللغة الفرنسية، لكن تعريبها أوصلها إلى جمهور جديد كان متلهفا لقراءة أي شيء يأتي من هذا الجزء المجهول من العالم العربي.

 

إنها رواية "مدينة الرياح" للدكتور موسى ولد ابنو، نفضت هذه الرواية غبارا متراكما لمئات السنين عن موروث ثقافي وموسيقي واجتماعي، وتناولت بعمق شديد أزمة متشابكة الخيوط بين التاريخ والواقع والمستقبل، منطلقة من آخر نقطة متاحة من الأخير عائدة مئات السنين إلى أبعد معروف من الماضي، ومتعانقة على مضض مع الحاضر.

 

سردت الرواية في فصول تحمل عناوينها مقامات الموسيقى التقليدية الموريتانية، معاناة رجل من الأشراف ساقته الأقدار ليصير عبدا لدى قافلة من قوافل الملح العابرة لصحراء الأرض السائبة.

 

اللغة الأنيقة والسرد الماتع والتفاصيل الصغيرة المؤثثة للمشهد المازج بين الأزمنة الثلاثة، لفتت انتباه ناشر عربي في بيروت، كانت بيروت كعادتها منطلق الأقلام العربية، فتداول المتلهفون للمعرفة تلك الرواية وجعلوها أيقونة الأدب السردي الموريتاني، وهي تستحق تلك المكانة.

 

لكن روايات الكاتب اللاحقة لم تحظ بالشهرة نفسها، مع أن من بينها أول رواية تؤرخ لشعيرة الحج عند العرب، وتسلط الضوء على هذه الممارسة القائمة منذ آلاف السنين، ومحللة أبعادها الاجتماعية والسياسية ثم الدينية لاحقا.

 

نشر الدكتور موسى ولد ابنو رواياته؛ مدينة الرياح والحب المستحيل وحج الفجار، ثم تفرغ لمشروعه الأكاديمي بوصفه أستاذا للفلسفة في جامعة نواكشوط.

 

وتسلم الراية من بعده الشاعر والروائي المختار السالم ولد أحمد سالم، الروائي الأغزر إنتاجا في موريتانيا، كان ذلك عام 2005 حين نشر روايته الأولى موسم الذاكرة، كانت محاولة لمزج الخيال العلمي بواقع المجتمع الموريتاني واستشرافا للأفق المعرفي في البلاد السائبة.

 

لكن تألقه كان مع روايته الثانية "وجع السراب" فهي نمط جديد في السرد الغرائبي يروي الكثير من الأحداث المستمدة من تاريخ الأرض السائبة، ونقل لصورة حقيقة أو مرسخة عن الطبقية التي أسس لها اختلاط ثقافات مختلفة في غياب سلطة مركزية"

 

وكان في الرواية تشابه أسلوبي مع رواية مائة عام من العزلة، وتتفوق على الأخيرة في طغيان صورة المرأة السلعة، وحيوانية الغريزة الجنسية .. ربما هذا ما كان موجودا أو ما تخيله الكاتب... لكن اللغة المنسابة للكاتب، وتوقفه خطوة واحدة دون الخط الأحمر الاجتماعي، جعل الرواية سلسة ومشوقة، وغير جارحة إلا لذوي القلوب الضعيفة.

 

ويمكن القول إن رواية "وجع السراب" تؤسس لنمط من السرد التاريخي السائر في حقل ألغام اجتماعية يصعب تفادي انفجار مفاجئ فيه في أي لحظة، ولكنه حقل لا بد من عبوره.

 

وتداول الراية مع المختار السالم الدكتور محمد ولد احظانا بثلاثيته الروائية "هجرة الظلال" و"السجين" ورحم الأرض" وهي روايات غاية في الجمال اللغوي وموغلة في الرمزية الثقافية والتحليل الاستشرافي المستند إلى التاريخ الضبابي لمكونات المجتمع الموريتاني.

 

وفي العشرية الثانية من القرن الحالي تسلم المغتربون الموريتانيون الراية، فجاءت روايات جميلة لموريتانيين مقيمين في الخليج وأوروبا وأمريكا، وما ميز رواياتهم أن كتابها مطلعون جدا على تقنيات الكتابة السردية عربيا وعالميا، ومعظمهم يعملون في الحقل الإعلامي ومعايشون للتنوع الثقافي في بلاد متعددة الهويات.

 

كانت رواية "تيرانجا" للكاتب والصحفي المقيم بين السعودية والإمارات محمد فاضل ولد عبد اللطيف أول رواية موريتانية تتوج بجائزة أدبية، فقد فازت بالمرتبة الثانية في جائزة الشارقة للإبداع العربي، وهي رواية لم تخرج في موضوعها عن سياقات الروايات الموريتانية السابقة، وكان محورها الصراع العرقي الذي دارت طواحينه نهاية الثمانينيات بين أعراق موريتانية عربية وزنجية لها امتدادات في السنغال.

 

ظهرت أسماء أخرى للمغتربين الموريتانيين في عالم الرواية كالكاتب محمد ولد محمد سالم المقيم في الإمارات، الذي نشر حتى الآن أربع روايات هي "أشياء من عالم قديم"، "ذاكرة الرمل"، "دروب عبد البركة" و"دحان".

 

 والكاتب الصحفي أحمد فال ولد الدين المقيم في قطر الذي اتخذ منحى مختلفا إذ كانت روايته الأولى "الحدقي" مزيجا من الرواية التاريخية متشابكا مع الواقع، فهي سرد لمحطات من حياة الجاحظ أيام عز المدرسة العقلية في العراق، ولكن بقلم مدقق لغوي يعمل في محطة فضائية عربية.

 

ثم عاد إلى المحلية مع روايته الشيباني، التي تسرد تفاصيل الأزمات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الموريتاني المعاصر.

 

ويمكن القول إن عام 2020 كان عام ذروة الاعتراف بالإنتاج السردي الموريتاني، فقد اعتلى ثلاثة موريتانيين منصات التتويج العربية، ففاز الكاتب محمد فاضل ولد عبد اللطيف بجائزة نجيب محفوظ للرواية في مصر، عن روايته "كتاب الردة" التي تتحدث عن المجتمع الشنقيطي في السعودية.

 

ثم توج الكاتب الدكتور الشيخ أحمد ولد البان بجائزة كتارا للرواية العربية عن روايته الأولى "وادي الحطب" وهي رواية تسرد تعقيدات المجتمع الموريتاني بداية القرن العشرين في منطقة الشرق المعزولة، حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية المعقدة بين مكونات يسعى كل منها لإيجاد مكانته في الدولة الوليدة.

 

وختم العام بتتويج الشاعر المختار السالم ولد أحمد سالم بجائزة شنقيط للآداب وهي جائزة الدولة التقديرية الأعلى في مجال الثقافة، ومنحت لروايته "الدابة" وكانت المرة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لهذا الصنف الأدبي، معطية بذلك إشارة الانطلاق للكتابة السردية في سباق البحث عن مكان في مجتمع ارتبط بالشعر حتى أطلق عليه إعلاميا شعب "بلاد المليون شاعر".

 

وخلال العقود الأربعة من عمر الرواية الموريتانية لم تخرج عن سياقها المحلي سردا وتتبعا وتحليلا، ولا تخلو فيها رواية من إثارة إشكالات العرق والعبودية والطبقية الاجتماعية، كما يندر أن تمر رواية لا يرد فيها ذكر المحاظر بوصفها الحاضنة الثقافية للعلوم اللغوية والدينية، وتجمع بين معظمها الاستعراضية اللغوية التي تكرس الصورة الذهنية عن المجتمع الموريتاني بوصفه حارسا على ثغر اللغة العربية في الغرب الإفريقي.

 

وربما تكون رواية حياة مثقوبة هي الاستثناء الوحيد في هذا المشترك، فهي رواية موريتانية المؤلف، لكنها لم تتحدث عن أي من الإشكالات الموريتانية التاريخية والاجتماعية، وغردت خارج السرب في بحث غامض عن معنى الحياة وانتقائية الذاكرة في مجاهيل الزمان والمكان والشخوص.

 

ومن المهم التنويه هنا إلى أن هذه القصاصة الصغيرة لا ترمي إلى حصر المنتج الروائي الموريتاني، ولا يعني ما ورد فيها اقتصار الابداع أو الجودة على الأسماء والعناوين الواردة فيها، وإنما هي في أقصى مراميها جرس تنبيه للقراء إلى بعض المنتج الروائي الموريتاني فتحا للآفاق، وتوطيدا لعلاقة ثقافية قائمة منذ قرون مشرق العرب ومغربهم.