نور الضباب
ذ- المصطفى المعطاوي
«في كتابنا «كيمياء الشعر» الذي تناولنا فيه التجربة الثقافية والشعرية للشاعر الموريتاني أدي ولد آدب، ختمناه بعبارة تؤكد على ضرورة تجاوز هذا الكتاب نقديا، وعنينا بالتجاوز الانطلاق من مخرجاته إلى آفاق جديدة لم يتحملها الكتاب منهجا ورؤية، ثم سكتنا بعد ذلك. في هذا المقال والمقالات التي تليه تباعا نعرض على القارئ بعض تلك الآفاق الواعدة لهذا المشروع المفتوح.«
عنونا هذا المقال بـ«نور الضباب»، حاملا المتناقضين: النور رمزيا دال على الأمل، والضباب على اليأس، وأدخلنا المفهومين في علاقة إضافة دالة على الحال، والسؤال المراد مقاربته هو: هل كانت التجربة الشعرية لأدي ولد آدب حاملة اليأسَ أم الأمل؟ ومشروعية هذا السؤال تدخل ضمن تقويم نقدي كلاسي(والمصطلح أبين من كلاسيكي)، يقوم على سبر أغوار النفس؛ كيف تنظر إلى الحياة والعالم؟
لقد زاوج الشاعر في تجربته الشعرية - من الرحلة حتى البصمة - بين نقد الواقع والنظرة إلى المستقبل، وقد شملت هذه الثنائية المواضيع والقيم على حد سواء. فعلى مستوى الوطن نراه يوظف ثنائية «المسجى» و«المرجى»، في إشارة إلى وطن اليوم ووطن الغد، الوطن القابع أمامه، والوطن الذي يأمله، الوطن القابع أمامه وطن الظلم والاستبداد، والوطن المأمول الذي يترجاه الشاعر مفعما بالرخاء والازدهار والعدل، الوطن الذي يسكنه الشاعر، والوطن الذي يسكن الشاعر. لقد رسم أدي ولد آدب صورة ضبابية لهذا الوطن، يقول في الصفحة 112 من ديوان تأبط أوراقا:
وطني الذي هرمت كراسيه
ومل الغاصبيه صباحه ومساه
وطني المدنس روح الشاكي
المزور بوحه المخنوق في شكواه
وطني الذي ينفي كنوز عقوله
ملء الدنيا والحمق ملء دناه
وطني الذي سرقوا رنين حروفه
حتى الحروف فأفرغوا معناه
هنا وطن مغتصب، وبلغة بيانية مستعمَر، ليس من الإمبريالي الغربي، لكن من الحاكم الموريتاني، والاغتصاب تدنيس للكرامة، وتتم عملية التدنيس بأسلوبين: تزوير إرادة الشعب، وخنق الأصوات الرافضة. وعملية الخنق تلك تتم هي الأخرى بطريقتين: القمع أو التهجير، والنتيجة وطن اسمي ليس إلا. هنا صورة قاتمة للوطن المسجى.
ولا تختلف نظرة الضباب إلى الوطن الصغير عن مثيلتها إلى الوطن العربي الكبير، يقول في الصفحتين 145 و146 من ديوان تأبط أوراقا
فالحاكمونا في الكراسي في العروش
ونحن بين المآسي والنعوش
إلى المآسي والنعوش
والحاكمونا ضالع أو صامت
إلى التلاشي والعدم
والحاكمونا ضالع أو صامت
أو ماضغ كلما
يخاف من الصنم
صفة واحدة للحاكم مهما اختلف القطر العربي، والإضافة الجديدة هي صمت الحاكم العربي على الجرائم التي يرتكبها الاحتلال القديم جديدا في فلسطين ولبنان، والاستعمار الجديد قديما في كل من سوريا والعراق، صمت الحاكم العربي ضلوع في الجريمة الإنسانية المرتكبة، ولإسكات الشارع العربي العريض يلجأ هذا الحاكم إلى مناورة سياسية تتمثل في اجتماعات صورية، لا تتعدى الشجب والإدانة، ولا يمكن أن تتعداها خوفا على المنصب، مما يعني تحالف الحاكم والمحتل على الشعب. ولأن الشعوب العربية فهمت اللعبة، والحاكم العربي مدرك لذلك الفهم، فإنه يسخر قوته لإسكات الداخل المحترق لا لمقاومة الخارج المنتشي، مؤثرا كرسيه على ملايين القلوب. صورة العروبة هنا ليست أقل ضبابا من صورة الوطن.
والأمر على مستوى القيم لا يختلف، ولأن القيمة المركزية في شعر أدي ولد آدب هي الحب، فلننظر ما حصل له، يقول في الصفحة 49 من ديوان رحلة الحاء والباء:
مات ذاك الهوى العفيف البري
منذ قرون وما بقي منه شي
مات مذ مات عروة وجميل
عصر هذين عصره الذهبي
مات حتى أنه ما تبقى
من بني عروة على الأرض حي
كثيرا ما ربط الشاعر الحب بالبراءة ساعيا إلى إخراجه من التمثلات الاجتماعية التي اقتلعته من الروح وأسقطته في المادة والجسد، وهذا الحب الذي يبلغ به الشاعر مرتبة القدسية يرى أنه مفقود في عالم اليوم؛ عالم الكراهية والحروب، وأما السبب المباشر في ما تعانيه البشرية اليوم من قهر وظلم واستبداد وعنف وحروب وكراهية وحقد؛ إنما هو ناتج عما وصل إليه الإنسان من تشييء الحب، وربطه بالجسد وفصله عن الروح، فأصبح الحب مفهوما ضيقا، بل ساقطا في هوة اللاأخلاق، ومن ثم بعده عن جوهره الذي لا يختلف عن جوهر الكينونة سوى في الوظيفة، ذلك أن الكاف والنون تمثلان منشأ الكون، والحاء والباء تمثلان استمرار هذا الكون في الوجود، ومن ثم فلا قيمة لوجود دون استمرار له، لأن غاية الله ليست هي الخلق فحسب، وإنما في استمرار هذا الخلق بالصورة الجميلة التي أرادها من إنشائه، ولن تتم هذه الصورة إلا بالحب الساري في أعطاف الوجود كله، ومنه الوجود الإنساني. لم يعد لمعنى الحب هذا وجود في عالم اليوم، والأكثر من ذلك أنه تم تقزيم هذا المفهوم إلى الدرجة التي مات فيها نهائيا، تاركا للكراهة السطوة على النفس البشرية، وهذا ما يعكسه مظهر الحروب وأشكال القهر والظلم والاستبداد والاستعمار. صورة ضبابية لا تختلف عن صورة الضباب التي يرزح تحتها الوطن وترزح تحتها الأوطان العربية عامة.
لكن الشاعر – وإن رسم هذه الصورة الضبابية لعالم اليوم- لم يكن عدميا في رؤيته إلى الحياة والوطنين الصغير والكبير والإنسان والقيم. لقد كانت نظرته نورية، نظرة أمل وليست نظرة ضباب قاتمة، ففيما يتعلق بالوطنين الصغير والكبير، وغالبا ما كانت تحضر تيمة هذا متقاطعة مع تيمة ذاك، يقول الشاعر في الصفحتين 103 و104 من ديوان بصمة روحي:
سؤال موطني وأنا جواب
ويا وتوق السؤال إلى الجواب
لئن فاضت بنا كل المنافي
سينهار الجدار حمى الذئاب
فتزهو بالعناقيد الدوالي
وبالزيتون تلتحف الروابي
وتغتسل الجداول من سموم
فتنزرع الحقيقة في السراب
هنا نلاحظ جواب الشرط الدال على زمن المستقبل في الأفعال الخمسة( سينهار وتزهو وتلتحف وتغتسل وتنزرع)، فالانهيار مصير أي جدار قمعي، سواء تعلق الأمر بحال القطر الموريتاني أو حال الوطن العربي الكبير، والجدار ليس سوى وهم وسراب لا يمكن لهما أن يدوما، إنما الدائم هو الأصل والحقيقة، وما الأصل سوى حقيقة الكائن البشري جمالا ومحبة وقيما نبيلة، وما الحقيقة سوى حرية هذا الكائن ورفضه للتسلط والقهر. هذا من جهة، من جهة ثانية وحين يتعلق الأمر بقيمة الحب، فالشاعر لم يقف على رسم صورته الضبابية التي هو عليها اليوم، وإنما يرسم صورته المستقبلية التي تعود به إلى صفائه النقي، يقول في الصفحتين 40 و50 من رحلة الحاء والباء:
ثم كان العجب أي عجاب
حين جاءت فتية وفتي
بعثا ذاك الهوى الميت حيا
صارخا يا زمان ها أنا حي
ها أنا وجدت شخصين أحيا
فيهما طاهرين كل نقي
فأنا اليوم بين قلبيهما نار
ونور معا ولهو بري
قد أعادا علي ثوب عفافي
حبذا ذاك الردا القدسي
هل تحتاج منا هذه الأبيات تأويلا ؟ أعتقد أنها لا تحتاج إلا أن نضعها في سياقها لفهم دلالتها، وسياقها أنها أتت في نقد الحب الكوني المقدس، وكيف ضاع في عالم اليوم وغاب عن إنسان الحالي، ليخرج الشاعر نفسه ومحبوبته من تلك الصورة الضبابية المظلمة التي أصبح عليها الحب، وإذا كانت المحبوبة على صورة امرأة، وما قد يقتضيه ذلك من حضور الجسد وقيم المادة، إلا أن القارئ لتجربة أدي الشعرية يرى بما لا يحتاج إلى تأويل أن المرأة في كل تلك التجربة لم تكن كائنا مجسدا، وإنما بقيت صورة متخيلة، يعيشها الشاعر في حلمه لا في واقعه، إلى درجة أن رفعها إلى مستوى الرمز؛ رمز الجمال المبثوث في الكون عامة. في هذه الأبيات يتحدث الحب عن نفسه مؤكدا عودته إلى الحياة من بعد موته، حب بري برداء قدسي، وقد أشرنا سابقا إلى ارتباط الحب في تجربة أدي بالبراءة والقدسية.
إن نظرة الشاعر لقيمة مركزية في شعره لم تكن عدمية وإنما نظرة أمل، وهي نفسها النظرة التي اكتشفناها في معالجته للقضايا الوطنية والعربية، وهي نفسها نظرته إلى الإنسان وبقية القيم. نظرة تصور القبح وظلامه، لكن تحمل أملا كبيرا في زواله واندثاره، في أفق أن يحل محله الحسن ونوره وجماله.
_______
مواد ذات صلة:
نحو أفق آخر لمشروع أدي ولد آدب الشعري (1)