نحو أفق آخر لمشروع أدي ولد آدب الشعري (1)

اثنين, 07/12/2021 - 02:10

 

 

 القيم الحيوية في شعر أدي ولد آدب

 

 

ذ- المصطفى المعطاوي

 

«في كتابنا «كيمياء الشعر» الذي تناولنا فيه التجربة الثقافية والشعرية للشاعر الموريتاني أدي ولد آدب، ختمناه بعبارة تؤكد على ضرورة تجاوز هذا الكتاب نقديا، وعنينا بالتجاوز الانطلاق من مخرجاته إلى آفاق جديدة لم يتحملها الكتاب منهجا ورؤية، ثم سكتنا بعد ذلك. في هذا المقال والمقالات التي تليه تباعا نعرض على القارئ بعض تلك الآفاق الواعدة لهذا المشروع المفتوح.«

 

ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال خشية أن يشمل بعض ما توصلنا إليه من نتائج في «كتاب كيمياء الشعر» الذي صدر مؤخرا عن «دار أزمنة» بالمملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، والذي تناول تجربة أدي ولد آدب الشعرية خاصة والثقافية عامة في محورين عريضين، كانت خشيتنا مما قد يفهمه القارئ من أن هذا المقال إشهار للكتاب، مع أن كتبي السابقة لم أسع قط إلى إشهارها إلا بقدر ما قام به القراء لها أو المؤسسات التي صدرت عنها، وفي كل الأحوال لم يكن لي علم بذلك؛ لكن بعد طول نظر رأيت أن روح هذا المقال وإن كانت تتقاطع في بعض النقط مع ما ورد في كتاب الكيمياء إلا أنها تختلف تماما، لأنها تنظر من زاوية جديدة وبأسلوب مختلف تماما؛ ذلك أن الأمر هنا يتعلق بعلاقة مضمون التجربة الشعرية والثقافية بحياة الشاعر نفسه.

يقينا لا يمكن لأي قارئ أن يدرك هذا النوع من العلاقة تلك ما لم يكن مطلعا بشكل جيد على تجربة الشاعر، والاطلاع هنا يعني القراءة المتعددة والمتأنية لتجربته، وهو ما حصل معنا فعلا، إذ أعتقد أني أول المطلعين على التجربة كاملة من الألف إلى الياء- باستثناء بحث الدكتوراه وبعض المقالات المنشورة هنا وهناك- ، ليس قراءة عابرة أو مستمتعة هاوية، وإنما قراءة متصفحة ناقدة دامت لمدة عامين تقريبا. كما لا يمكن إدراك العلاقة بين الثقافة والشعر من جهة، وحياة صاحبها من جهة ثانية ما لم يكن القارئ قد تعرف - من قريب أو من بعيد - عن أسلوب عيش صاحب التجربة، وهو الأمر الحاصل معي أيضا، عن قرب من خلال ملتقى العيون هنا بالمغرب، وعن بعد من خلال معارف الشاعر من أسرة آدب خصوصا، أو من قبيلة كنتة عموما، مع العلم أن إحساس القارئ الناقد بصدق التجربة يعتبر في حد ذاته معرفة عن قرب، وهو الأمر الثالث الذي يسمح بفهم طبيعة العلاقة بين التجربة والحياة.

صدر لأدي ولد آدب عن وزارة الثقافة الجزائرية سنة 2009 كتاب عنوانه «رحلة الحاء والباء متبوع بتأبط أوراقا»، وهما ديوانان في كتاب واحد، ولم يُصدر كتابا بعده إلا بعد عشر سنوات، وهو ديوان «بصمة روحي» عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال بمدينة مراكش المغربية سنة 2018، لتتوالى الإصدارات عن هذه المؤسسة، فكان كتاب «تأويل رؤياي» سنة 2019، وهو عبارة عن مقالات في النقد والثقافة والأدب والمجتمع، ثم «سلسلة التراث الكنتي البوسيفي» في خمسة كتب سنة 2020، يسبر فيها الشاعر أغوار أسرة آدب في الشعر والتصوف والسياسة والأخلاق.

وإذا أردنا أن نعطي صورة واضحة عن هذا المشروع يمكن القول ببساطة إنه رؤية متكاملة: على المستوى القيمي تنتصر للحب والحق والعدل والجمال والشجاعة والكرم، وتثور على الكراهية والظلم والقبح والجبن والبخل، وتنهل هذه القيم من مرجعيتين تشكلان خلفيتها الإيديولوجية، وهي العروبة من خلال مفهوم الفتوة، والدين من خلال الطرح الصوفي القائم على العبادة بالتعبد، وهو نهج أسرة آدب خصوصا وفخذ أنبوسيف بعموم أقل، ومجتمع كنتة بشكل عام. وعلى مستوى الموضوعات، تشكل عناصرَ الرؤية تيماتُ الإنسانِ والوطن والسياسة والشعر، تتناغم هذه العناصر مع الطرحين القيمي والإيديولوجي بما يجعلها تمثل نسقا فكريا وليس مجرد بوح شعري، فالمرجعية القيمية لتيمة الإنسان مثلا مبنية على الحب المطلق للإنسان، دونما اعتبار للون والجنس والدين وما إلى ذلك، شرط أن يكون هذا الإنسان محبا ومنتصرا لقيم الحق والعدل والجمال، وما إلى ذلك من قيم الخير والنبل، وهذه القيم يرى الشاعر أنها من خزائن العربية الأصيلة، وأسرار الدين الإسلامي في صفائه الذي تجليه الصوفية متقربة إلى سدرته عبر التعبد لا عبر الشطحات. وفي هذه النقطة تحديدا تتقاطع قيمة الحب مع الشجاعة، بحيث أن الإنسان المفعم بهذه القيمة السامية يكون مستعدا لنقد الكراهية والحقد والظلم وما يتطلبه ذلك من شجاعة على القول والفعل، وهنا تحضر المرجعية العربية من خلال مفهوم الفتوة، وإن اقتضى الأمر تبني أسلوب الصعاليك، وكثيرا ما تردد مفهوم الصعلكة في التجربة الشعرية لأدي ولد آدب، وكثيرا ما سمى الشاعر نفسه صعلوكا، ومعروف عن الصعاليك ارتباط تجاربهم الشعرية بحياتهم اليومية. والشجاعة ترتبط بمحبة الإنسان والوطن والجمال، إذ نرى الشاعر يوجه بشجاعة سهام نقده القوي إلى الساسة العرب، كونهم يمثلون استعمارا غربيا بالنيابة، بحيث أنهم يقهرون شعوبهم، ويمارسون عليها شتى أنواع الظلم والاستبداد من أجل كراسيهم التي يتشبث بها المستعمر الغربي قبلهم، لأنهم يخدمون مصالحه، كما نراه يوجه - بالشجاعة نفسها – نقده إلى المثقف الموريتاني المأجور الذي تخلى عن قضايا الإنسان من أجل الثناء على أولئك الساسة تقربا منهم لمآرب مختلفة، وبالشجاعة نفسها يوجه الشاعر نقده للشعراء الذين أفقدوا الشعر حرارته بداعي التجديد، معتبرا أن صفة التجديد لا تكون بالاقتراض والنقل والاتباع بل من خلال الإبداع من داخل الذائقة العربية، وهو ما لا يتطابق مع من هلل لهم الإعلام ومنحهم صفة الرواد، فانحرفوا بالشعر من حرارته إلى البرودة التي سكنته خلال العقود الماضية، والتي لا زالت سارية في جسده حتى اليوم.

يعيش الشاعر الآن في بلاد المهجر لأنه صعلوك تمرد على الساسة الموريتانيين، وانتقد طريقة تدبيرهم لشؤون البلاد، يعيش مغتربا ليس خوفا منهم لكن لا مكان لعيش أمثاله في الوطن، فالأبواب موصدة في وجهه، ورؤيته للسياسة والوطن والمواطن تمثل مصدر قلق وإزعاج كبيرين، وهذا ما يفسر سنوات الفقر العجاف التي عاشها متأبطا شواهده العلمية طارقا بها كل الأبواب ولم يلق إلا التسويف، فكان ذلك سببا حقيقيا لاختيار المهجر والبعد عن الوطن. ولأن المثقفين الموريتانيين – إلا ثلة قليلة منهم- قد اشتراهم النظام، أو باعوا أنفسهم للتكثلات السياسية والحزبية، فإن تجربة أدي الثقافية ستغيب عن أي مشروع نقدي داخل القطر الموريتاني– إن كان هناك مشروع أصلا-، إذ غالب النقد – بتعبير أدي نفسه- هو عبارة عن انطباعات شفهية أو خرجات إعلامية تنطوي على أحكام تفتقر إلى المنهج النقدي الدقيق. ولأن الشاعر يعي وضعه تماما داخل المشهد الثقافي الذي تزكمه روائح السياسة الكريهة، فقد عمد إلى نشر كتبه خارج أية مؤسسة رسمية أو مدنية داخل القطر الموريتاني، قارئا نفسه بنفسه في كتاب «تأويل رؤياي»، دارسا جوانب من أسرته مما هو أجدر بالمثقف الموريتاني أن يقوم به.

ولأن نشر كتاب خارج أي دعم مؤسسي يمثل تحديا ماليا خاصة للفئات الوسطى أمثاله، فهذا ينطوي على قيمتين رئيستين في حياة أدي، ورثهما عن الأسلاف وخاصة أسرة أهل آدب، وبشكل خاص عن أحمد ولد آدب وهما: الكرم وعزة النفس، فالرجلان معا يُشهد لهما بالإيثار، أحمد من خلال سيرته ومادحيه كما قرأنا في سلسلة التراث الكنتي البوسيفي، وأدي من خلال أشعاره كما قرأناها في مؤلفاته من «الرحلة» إلى «البصمة» مرورا بكتاب «التأويل»، ومن خلال معارفه من أهل كنتة وخارجها، وما اعتماده على نفسه في إخراج مشاريعه ورؤاه إلى الوجود إلا جزء من الدلالة على قيمتي الإيثار وعزة النفس.

بعد هذا الاستطراد السريع نقول إن القيم في تجربة أدي ليست للاستهلاك الفني لكنها قيم حيوية يعيشها الشاعر، حبا وكرما وشجاعة وجمالا وحقا وعدلا، قيم تمثل جزءا من كيانه لا مجرد دعوات فنية، إنها تؤسس وجود الذات، أو إن الذات تؤسس وجودها عليها، وكلا التعبيرين سليم. وإذا ما استثنينا في شعره تيمة الحنين إلى الوطن والتي هي أمر طبيعي عند الكائن البشري، فإننا لا نجد في أشعاره ما يشير إلى تذمره من العيش في بلاد المهجر، ذلك أن الوطن العربي يمثل أرضه، والعربي يمثل ذاته، وإذا ما أضفنا ذلك إلى توجهه الإنساني القائم على مبدإ الحب اللامشروط للإنسان، فهذا يعني بالنسبة إلينا أن الأرض كلها تمثل وطنا، الشاعر قادر على التفاعل مع كل أقطارها بما يملك من قيم كونية تتقاطع معها كل الثقافات وكل الشعوب، وهو ما عبر عنه بلسانه كونه ليس شرقيا ولا غربيا لكنه كل الأنحاء.