ولد يوباه يكتب رسالة إهداء إلى والده

سبت, 05/11/2019 - 01:05

إهداء (*)

 

ما زلت أذكر يوم أنختَ راحلتك أمام الخيمة ضحى، وترجلتَ نحونا مشرقَ الوجه، مهيب الطلعة، فارع القامة، سمحا، خلوقا... احتضنتني بكلتا يديك الحانيتين حين خرجتُ مسرعا إليك جذِلا بقدومك، ثم ناولتني أوراقا شغلني عن النظر إليها وقتئذ فرحتي بلقائك، وحبوري بوصولك...

كنتُ يومها صبيا في التاسعة من عمري، أتَحَفَّز للقفز نحو عاشرتي. أذكر أنني كنتُ شديد الزهو يومئذ بنفسي؛ لأنني قد أكملت منذ أيام معدودات حفظ القرآن الكريم عليك وعلى العابدة الخفِرة النّوارِ... أمي، رحمها الله...

أمي... تلك الرحمة التي أضْفت الحنان والعطف على طفولتي، والبسمةَ والسعادة على شبابي، واحلولى بها وازدان ربيعٌ عمري... أمي التي ما يزال خطٌّها الواضح الجميل على لوحيَ الخشبي المستقيم الأملس المنتقَى، شاخصا أمام عيني... لا يحول، مرقونا على صفحة الذاكرة بحبر الحنان الخالد... لا يريم...

قلتَ لي: هذا بصائر التالين للشيخ (آدَّ)، عليك أن تحفظه، وسأشرح لك في قادم الأيام معناه... ولقد وعدتَ ــ رحمك الله ــ فوفيت.

ما زلت أذكر ذلك يا أبي... وما زلت أذكر أيضا أنني ــ ربما ــ كنت الوحيد بين أقراني ولِداتي الذي أكملَ حفظ كتاب الله العزيز دون أن يكون قد تعرض في أي يوم من الأيام لصفعة كف مؤلمة، أو لسعة لسان مؤذية... 
ذلك بعض من تجليات عطفك وحنانك وبرِّك، وغيض من فيض حكمتك وتربيتك!

 

ولأنني ما زلت أذكر ذلك يا أبي... فها أنا ذا أُخاطب روحَك الجذلى السارحة في أفياء الجنة، لأهمس إليك ــ والحقَّ أقول ــ أنني ما زلت بحمد الله ــ كما كنت ــ أحفظ القرآن العظيم عن ظهر قلب كما أقرأتنيه، وأتعهده كما أوصيتني؛ لأنني تلقيته عنك بالحب، وحفظته منك بالحب... وسأظل أحفظه بالحب، وأحتفظ له بكل الحب... ما بقيت.

وما زلت أيضا ــ كما كنت ــ أحفظ بصائر التالين عن ظهر قلب، وأحفظ الكثير من أنظام الشيخ العلامة (آدَّ) الذي زرعتَ في نفسي حبَّه وحب تآليفه وأنظامه، وأنا ما زلت بعدُ يافعا صغيرا...

فإليك أبي وأنت في دار الحق أهدي هذه النسخة من (بصائر التالين) وفاء وحبا وذكرى... بعدما عَدَتْ عادياتُ الزمان على تلك التحفة الجميلة التي أهديتنيها في الأيام الخالية...

لم تشفع لها مكانة مصدرها، ولا روعة خط ناسخها، ولا سمو الغاية في تحصيلها، أو نبل الهدف في اقتنائها، لدى عوامل الحتِّ وفُسَّاق الأرَضَة، فأزالتْ كثيرا من رونقها وطمستْ كثيرا من معالمها، ومحتْ كثيرا من حروفها، رغم حرصي عليها...

 

غير أنّ ما لم تستطع السنون محوَه من الذاكرة، ولن تستطيع، هو أن كل كلمة من هذا النظم ما تزال تذكرني بك، وتهمس في أذني بصوتك... كل ورقة ألمسها تشعرني بدفءِ وحنانِ يدِك، فإذا أنا أتملَّى أناملك، وأتتبع حركتها الوئيدة الواعية من جديد على صفحات بصائر التالين... حتى القِمَطرُ الذي يضم الكتابَ الهديةَ الذِّكْرَى... ما يزال يا أبي هو هو!...

لتعلمَ أنني بعدك ما غيرتُ ولا بدَّلتُ... وأنني باق على العهد ــ بحول الله ــ ما استطعت... رحمك الله أبي، وجزاك عنا خير الجزاء، وجمعنا بك في جنة الخلد.

 

 

ابنك

 

_______________

 

(*) نص إهداء كتاب "هوامش ("على "بصائر التالين لكتاب رب العالمين" للعلامة محمد مولود بن أحمد فال (آد).

 

لمعلومات أكثر عن الكتاب أو شرائه اضغط هنا