نبدأ اليوم رحلتنا السياحية في معلقة امرئ القيس بوقفة عنوانها
على أطلال امرئ القيس.
ان المتتبع لتاريخ الشعر العربي ليجد علاقة حميمة بين الشاعر العربي والمكان لايغيرها مر السنين ولازعازع البارح الترب .
تبدأ من عهد عمرو بن مضاض الجرهمي حين طرد من مكة فأنشد.
كأن لم يكن بين الحجون ...
وهنا نسافر في رحلة وجدانية تستنطق الدمن البوالي والزمان الغابر مع امرئ القيس في معلقته .
إلى ديار عفتاها السوافي وتعاقب الجديدين .
ديار خلدتها الصباة بذكر عنيزة وأم الرباب وأحاديث اللقاء التي لاتزال مسرح استنساخ لكل شاعر
منها يستقي نفثاته وعلى صفيف شوائها يقتات .
دريار بها لبس الشاعر جبة الغزل والتشبيب .وأذكته صبابات الوجد. حتى وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في صدر بيت واحد.
نسير في رحلتنا إلى الديار المذكورة على مهل
فالحقاف العقنقلية لم تبق مستوقدا بال ولامحتطب .
وقد حار الادلاء في صحراء الغبيط قبلنا يبحثون عن السبيل ولم يعرفوا له شانا..إلا أن دليلنا في هذه الرحلة هو الشاعر نفسه .فلم يبق للقاصدين مجالا للتيه بوصفه الدقيق ومهارته العالية في رسم حدود الصحراء .
فمهد للسالكين الطريق من حيث وقف.
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل.
فتخيل الوصف الدقيق للخريت الماهر الذي.
ألقى بصحراء الغبيط بعاعه
نزول اليماني ذي العياب المحمل
.
حيث وقف عند نهاية الرمل المعوج الذي عبر عنه بسقط اللوى وشبه أودية هذ اللوى بجوف حمار الوحش إذا خلا من العلف ، وذالك لاستيحاشه وخلوه من الساكنة .حتى أن الذئب وهو المعروف باستئناسه بالصحراء الموحشة تراه في هذ الأودية من شدة استيحاشه يعوي كخليع الإبل الذي ماتت أمه فغدا عالة على كل حلوب يتردد بين الرسل متسكعا على الرباع
وَوَادٍ كجَوْفِ الْعَيرِ قَفْرٍ قطعْتُهُ
بهِ الذئبُ يَعوي كالَخليعِ الُمعَيَّلِ
وإن كان قد ألقى بعاعه بصحراء الغبيط
لاجئا لخدر عنيزة مترجلا بعدما عقر ناقته لصواحبه لايبالي أمال الغبيط أم اعتدل.
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنك مرجل
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلازال يذرعها شحطا يتأمل معالمها ويندب لحظات الزمن التي مضت بين سهولها ووهادها
يتداوا بسكب العبارات
وإن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول
كدأبك من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل
وتلك لعمري عادة مأسل فمامر بها شاعر إلا أذكته الصبابة والوجد
ولنقرب الوصف أكثر فإن
مأسل الجمح
تقع على مقربة من مدينة الدوادمي الحالية وهي التي يقول
فيها الشاعر :
فلما بدت عروى وأطراف مأسل ** وذوخشب كاد الفؤاد يطير
ويقول النميري
فهل أشرفن الدهر أخراب مأسل ** ضحياً ولبدي فوق مطرد نهدِ
وقبل أن نغادر مأسل ملهمة الشعراء
نحط الرحال قليلا حتى نقف عندها وقفة تأمل تعيد الماضي حاضرا فهي مدينة أثرية بامتياز .فلاتزال حتى اليوم تحتفظ بالإرث السبئي القديم ..وتقع مأسل بالقرب من الدهناء وهي رمال شاسعة جنوب المملكة تعرف اليوم بالربع الخالي
ويقال إن بها مدينة عاد إرم ذات العماد...
وكانت طريقا للقوا فل القاصدة دارين..
ويعزز ذالك قول الشاعر:
يمرون بالدهنا خفافاعيابهم
ويرجعن من دارين بجرى الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم
فندلا زريق المال ندل الثعالب
وهذ البيت الأخير يستشهد به النحاة على المصدر الذي ينوب عن فعله فيحذف وجوبا.....
ثم يأخذ الشاعر امرؤ القيس استراحة غرامية يعيش فيها لحظاة مضت من الوجد اللا متناهي مع المحبوبة عند دارة جلجل
ألا رب يوم لك منهن صالح
ولاسيما يوما بدارة جلجل
ثم يواصل المسيرة ولهان
تهيجه البروق بوامضها فيأخذ معرسه الذي طالما اتخذه ملجأ للراحة بين ضارج والعذيب على رابية قطن بني عبس
الذي كاد أن يسمى باسمه
لولا أن عبسا لاتملك غيره
أين انتهى يابن صميعاء السنن
ليس لعبس جبل غير قطن
فيقيه من السحاب ويتفرغ لوصف الموريات قدحا .ويسرح بخاطره بين دوح الكنهبل المنصب من الكتيفة حتى يستوي على جبل القنان.
أصاح ترى برقا أريك وميضة
كلمح اليدين في حبي مكلل
قعدت له وصحبتي بين ضارج
وبين العذ يب بعدما متأمل
على قطن بالشيم أيمن صوبه
وأيسره على الستار فيذبل
فأضحى يسح الماء حول كتيفة
يصب على الأذقان دوح الكنهبل
ومر على القنان من نفيانه
فأنزل منه العصم من كل منزل
وليست هذه أول جلساته على جبل قطن
فطالما ألف اللجوء إليه مع رفاقه حنيما تحين نفثات التشكي
.وتنهمر السماء
فيستمتعون وقتها بزخات المطر وهدير السيول..
قعدت له وصحبتي بين ضارج
وبين تلاع يثلث فالعريض
أصاب قطيات فسال اللوى له
فوادي البدي فانتهى للأريض
وكيف لايعتاده وبه منهل المحبوبة الصافي الزلال الذي يفيء عليه ظل السمر
ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
ثم يواصل تعداد المعالم حتى يصل إلى الجواء .
التى أذاقت زهيرا ما أذاقته بعدما تحمل أهلها منها وبانوا حيث يقول
عفا من آل فاطمة الجواء
فيمن فالقوادم فالحساء
فيجد حانيات الطير تتهادى كالشارب الثمل
كأن مكاكي الجواء غدية
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
ولم يستطع امرؤ القيس أن ينسى تيماء لما أسدا ه إليه ملكها من معروف رغم أنها تقع بين الحجاز وتبوك وذالك أنه مربها فترك أدرعه وسيوفه عند ملك تيماء قديما وهو الملك السموأل بن عاديا.. ملك يهودي . وقد فضل السموأل أن يقتل ابنه على أن يسلم وديعة امرئ القيس التي أودعه إياها لأعدائه . وضرب به المثل في الوفاء.
. فقيل أوفى من سموأل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أطما إلا مشيدا بجندل
وليست تيماء فحسب بل طوف على جبل ثبير بمكة .يوم
زملته الأمطار بكساء الربيع
كان ثبيرا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
وهذ البيت شاهد للنحاة على الخفض بالمجاورة .
وعند ثبير تنتهي هذه الرحلة على أمل أن يتجدد معكم اللقاء
في رحلة استكشافية أخرى .
حول القصيدة /تأخذنا إلى رياض اللغة ،ونسائم عبق التاريخ انتظرونا ..ان شاء الله
(*) شاعر موريتاني مقيم بالهجر.
_______
عناوين ذات صلة:
امْـرؤ الـقَـيْـس مُـتنَـبِّـي الصّحْـرَاء/ (2)/ أبو العلاء الشنقيطي