جمال بن الحسن، رحمه اللـه، حاضر بالبال حضورا لا يحوج إلى استدعاء الذكريات. لكن ذكرى رحيله اليوم (17 مايو) أغرتني بالكتابة عنه، كما حدث أن فعلت، وإن قليلا، فيما سبق.
هممت وفكرت، لكن سلطان الكلمة استعصى علي، والشواغل آزرته، وكثيرا ما خذلاني، فلم أجد في جعبتي ما أقوله غير همهمات مألوفة بالدعاء لأخ عزيز وصديق حميم، غاب بعدما احتجر لنفسه منارا في شغاف قلبي، كما في قلوب الكثيرين.
أضربت صفحا عن التفكير في الكتابة، بل وعن شواغل أخرى، ورأيت أن أقتطع وقتا ما لقراءة نص ما، أبحث فيه عن ملجأ آمن من إحساسي حينئذ بالعي والإعياء.
في قراءة استعراضية عجلى، وقفت لي هذه العبارات بالمرصاد، وأغرتني بالتأمل:
"هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.. لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة (...). كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة (...) لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته (...) هذا الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه (...) وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة، وزهده الطبيعي (...) أمضى حياته القصيرة العريضة مجانبًا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص (...) كان لا بد أن يموت باكرًا، فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد".
كل من عرفوا جمالا – كما عرفته – يستطيعون أن يقرؤوا شذرات من سيرته في هذه الكلمات، لكنها كتبت عن غيره، وكتبها بالطبع غيري.
الكلمات كتبها روبرت جاكسون، صحفي أمريكي، في كتاب صدر بعنوان "حسن البنا الرجل القرآني" مترجما عن الإنجليزية.
ومن الغريب أن الصحفي يستدعي التاريخ، فيتلمس خط ارتباط بين أحداثه وبين ظهور الرجل الذي ترجم له، فيقول: "شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته، وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشوا، ومات عام 1949، وهو عام إسرائيل، التي قامت شكليًا سنة 1948 وواقعيًّا سنة 1949".
في هذه، لا مجال للاقتباس النصي، لكن لنا أن نستعمل نفس المنهج فنقول إن ولادة جمال عام 1959غ وافقت أحداثا عظاما، هي أحداث غروب شمس الاستعمار التقليدي، وطلائع فجر ما عرف بعهد الاستقلال، وفوران حركة التحرر عبر العالم، وما صاحب ذلك من حروب تحرير منها ما كان قائما حديث العهد (حرب التحرير في الجزائر) ومنها ما كان في حال مخاض بعد انكسار (الثورة الفلسطينية)، فضلا عن اهتزاز العديد من الكراسي والعروش. إنها حقبة يؤرخ لمناخها النفسي المرابط محمد سالم بن عدود، رحمه اللـه، في مطلع قصيدة له:
ليس للرجعي فينا من نسب كل رجعي دعي في العرب.
ولقد كان اسم جمال ذاته صدى لذلك الميقات، فقد اختار والده السياسي والدبلوماسي ورجل الدولة والمجتمع المعروف السيد محمد عبد اللـه بن الحسن أن يسميه جمالا، إعجابا بالرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يومئذ رمزا للتحرر، خصوصا بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر.
طوى جمال شراع سفينته في ختام رحلة قصيرة ولكن عريضة كثيفة في 17 مايو 2001، نفس العام الذي وقعت فيه أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحوصر فيه الزعيم ياسر عرفات في رام اللـه، وشنت فيه إسرائيل واحدة من أعتى هجماتها على قطاع غزة، أحداث اكتنفتها أحداث عظام أخر، منها انتفاضة الأقصى بعد اقتحام شارون الحرم القدسي عام 2000، ومجزرة جنين عام 2002، وسقوط بغداد عام 2003، وما لتلك الأحداث وغيرها من ذيول وتداعيات مستمرة إلى اليوم.
لم يكن من أقل الأحداث التي شهدها الراحل أثرا في نفسه خطوة مباغتة وموغلة في "السريالية" اتخذتها حكومة بلده، البلد الوحيد الذي ظل إعلامه أمدا طويلا يتحدث عن "دويلة الكيان الصهيوني"، حين أقام علاقات دبلوماسية مع إسرائيل واستقبل وفودا من أكثرها إثارة للاستغراب وفد الكنيست (عام 2000). وكان من آخر الرسائل التي وصلت إلي من جمال رسالة يتحدث فيها عن كابوس مفزع: رؤيا رأى فيها وكأن شارون قد حل بعاصمة بلاد المرابطين!
بين نقطتي الانطلاق والوصول في تلك الرحلة القصيرة (وبينهما ما بينهما من الأحداث العظام أيضا)، حمل جمال في حنايا قلبه تباريح زمن النكبة والنكسة والهزيمة والكبد في معالجة الهوة بين الواقع والطموح، فكان مما كان ذلك الداء الذي تحدث عنه في قطعة لعلها آخر ما كتب من الشعر، يقول في فاتحتها:
فحص الطبيب دمي وقال سليم نظر لعمرك في الدماء سقيم
ويقول في خاتمتها:
داء نجاة المرء منه مصيبة عظمى وفوز أن يميت عظيم
لم يكن جمال سياسيا محترفا ولكنه كان، شأن كل مؤمن صادق، شديد الانشغال بالهم السياسي المهيمن، أي بالشأن العام، على مستويي الوطن والأمة.
ورغم أن القياس بعدسة الصحفي في لوحته عن "الرجل القرآني" هو قياس مع فوارق من الجانبين، فإنه مما ينبغي الانتباه إليه أن هناك مشتركا كبيرا، جعل الصورة المرسومة عن شخصين في زمنين في مكانين مختلفين، صورة تبدو متطابقة أو متقاربة في العديد من قسماتها، ومنها العمر الذي عاشاه. ولعل كثيرا ممن عرفوا (جمال) عرفوا أنه لم يكن، في انتمائه الصوفي المعروف، غريبا على فكر الشهيد البنا، ليس لأنه فَقِهَ قاعدة العمل في المشترك المتفق عليه والإنصاف في الاختلاف فيما عدا ذلك، ولكن لأنه وجد دائرة المشترك أوسع مما يتصور الكثيرون، فقد كان البنا نفسه صوفيا، وكانت بينه وبين الشيخ محمد الحافظ بن عبد اللطيف المصري علاقة حميمة، جريا بها معا في المشترك الكبير أيام تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وأفصحا فيها معا عن تصوف عامل غير خامل ولا عاطل، مجاهد غير قاعد. كان حسن البنا يقول إن "الصوفية النقية البعيدة عن التعقيد هي من لباب الإسلام، وأنها هي الدرجة التي يصل إليها الرجل الحق. وأن الصوفية بالمفهوم الأصيل تمد الطبع بحب الجهاد والكفاح وافتداء الفكرة". وكان يرى أن عليه "أن يرقي أتباعه إلى هذه الدرجة".
على أرضية من هذا القبيل تماهت الحدود، وقامت جغرافيا ذهنية موحدة، حذقها جمال، وهو الذي كان يقول إنه لا يفقه شيئا في الجغرافيا، يقصد منها على وجه أخص "طبوغرافيا" المدن. لم تكن تلك حاله في مدائن الفكر والمعرفة.
كان جمال أحد أولئك الذين تفتقدهم الأمة في فورات التعصب الضيق: أولئك الذي "يعرفون من أنسابهم ما يصلون به أرحامهم"، أولئك الذي أدركوا أن الجدر المنصوبة زعما أو وهما بين سوح العمل الإسلامي هي جدر "كرتونية"، لا تحتاج إلا إلى فعل بسيط (فعل وعي في المقام الأول) لتنهار، ولتدرك أن الساحة أكبر بكثير مما تتصور، وأن الجائلين فيها ليسوا بني علات ولا بني أخياف أحرى أن يكونوا خصوما أو أعداء، وإنما هم إخوة أشقاء، وإن صدت بعضهم عن بعض تلك الجدر الخادعة.
على أن جمالا – ولا تدافع بين الصورتين - كان في المقام الأول فارسا من فرسان المعرفة، تدريسا وبحثا وتأليفا.
لقد كان في قصر رحلته وكثافتها، بكثافة عطائه، صورة معبرة عن الحقبة التي عاشها. فقد اعتبرت سنة 1959 سنة فاصلة أيضا في تاريخ البشرية، لا على المستوى السياسي ولكن على المستوى العلمي ومستويات سواه. كذلك تحدث فرد كابلان مؤلف كتاب 1959، الذي زعم أن هذه السنة غيرت العالم، مستعرضا جملة من الأحداث منها ما يؤسس لحراك تحرر جديد مثل بروز حركة "أمة الإسلام" في آمريكا على يد المناضل مالكوم إكس، ومنها ما يؤرخ لمحطات فاصلة في تطور الحضارة البشرية، مثل اختراع شريحة المايكروشب التي طورت استخدام الحواسيب الآلية، وإطلاق أول رحلة بالطائرة النفاثة عبر الأطلسي بدون توقف، وغزو الفضاء (الكبسولة السوفيتية، ثم رحلة رواد الفضاء الآمريكيين في العام نفسه).
والأهم فيما نحن بصدده ما يشير إليه كتاب 1959 من تغير معايير قياس الزمن، فقد انتقلنا من القياس بالجيل المقدر بثلاثين عاما إلى القياس بالعقد (10 سنوات)، وتلك نتيجة طبيعية لتسارع الزمن المقترن بانفجار المعرفة وابتكار أدوات طي المكان وبسط الزمان أو تكثيفه.
بهذا المعيار، نستطيع أن نقول إن عمر جمال لم يكن قصيرا كما يتصور. العقود الأربعة كانت أجيالا أربعة! قياس كمي يبقى – مع ذلك - قاصرا، عند إمعان النظر، فالعمر عندما يقاس بعمل من مروا وهم يدركون أنهم عابرون أطول بكثير مما يتوهم جل العابرين.
وما أعمار الناس في واقع الأمر إلا أعمالهم، بها تقصر أو تطول.