على هامش علاقة العربية الفصحى والعربية العامية (العربية الحسانية مثلا)
1 - كل الناطقين بالعربية لا يميزون في التسمية بالعربية بين الفصحى والعامية فكلاهما طبعا عربية (العربية الفصحى أو العربية الدارجة) باستثناء الموريتانيين والصحراويين لأسباب تاريخية تتعلق بصراعات محلية معروفة - ومتجاوزة - على الشرعية الدينية اللغوية.
2- في كل لغة من لغات العالم توجد ظاهرة الثناية Diglossia بين المستوى الفصيح أو العالِم ومستوى الاستعمالات العامية أو اللهجة أو اللهجات.
3- يتقارب أو يتباعد المستويان الفصيح والعامي داخل كل لغة وفي كل بلد من بلدان استخدامها حسب مستوى التعليم لدى الأغلبية وحسب السياسات اللغوية ونسبة توحيدها في الدول التي تنتشر فيها إلخ.
4- ولكن لا يقال جديًا بالمعنى اللساني إن مستوى من اللغة مشتق من آخر كأنهما لغتان ولكن يقال إنهما مستويان يتقاربان أو يتباعدان نسبيا، فصيح وعامي، من لغة واحدة. اللغة هي المستويان معًا.
5- الفرنسية، مثلا، مشتقة من اللاتينية ولكن المستوى العامي في الفرنسية والمستوى الفصيح (أي العالِم) ليس أي منهما مشتقا من الآخر ولكنهما مستويان من لغة واحدة.
الألمانية، مثلا، مشتقة من الجرمانية ولكن لهجة فرانكفورت أو لهجة برلين تنتميان للمستوى العامي أو الشعبي وليستا مشتقتين من المستوى الأكاديمي للألمانية بل المستوى العامي كما الأكاديمي مستويان من لغة واحدة أي الألمانية المشتقة بمستويـيْها من الجرمانية (Germanic) التي تعتقد اللسانيات المقارنة أنها بدورها مشتقة كالاتينية واليونانية إلخ من الهندو أوربية إلخ.
6- حتى نتفادى العبارات التي لا معنى لها لسانيا : العربية الحسانية ليست مشتقة من العربية (كما نقول عن لغة إنها مشتقة من لغة أخرى مختلفة عنها)، والمصرية ليست مشتقة من العربية، والعراقية ليست مشتقة من العربية إلخ.، بل الحسانية أو المصرية أو العراقية أو الجزائرية كلها عربية تنتمي كلها للمستوى العامي للعربية في مقابل المستوى الفصيح. العربية كلغة تقال للمستويين.
والمستوى العامي أو الفصيح كلاهما مستوى داخل اللغة الواحدة أو اللسان الواحد وليس كيانًا قائمًا بذاته في مقابلها.
7-حين توجد مفردات فرنسية أو لاتينية أو صنهاجية في العربية الحسانية فهي بذلك مفردات تعرّبتْ وأصبحتْ جزءاً من أحد مستويي العربية أي في هذه الحالة مستواها العامي الحساني مثلًا. وهذا يَصدق لسانيا على كل اللغات. هناك مئات الكلمات العربية والبربرية دخلتْ في المستوى العامي للفرنسية (كيف كيف، تبيب، زما إلخ) ومئات دخلت في المستوى الفصيح للفرنسية (الكوول، مغازين، نوتيك إلخ). وهي مفردات فرنسية كاملة الانتماء إلى لغتها التي تبـنّتها في مستوييها العامي والفصيح، وهذا قانون لساني معروف بين كل اللغات.
8- كما رأينا المستوى الفصيح للعربية ليس مشتقا من العربية (الشيء لا يشتق من نفسه) بل هو فقط المستوى الأكاديمي (أو الفصيح أو المكتوب أو الأدبي أو المعياري أو العالِم) من العربية.
والمستوى العامي من العربية أي المستوى الحساني مثلا ليس مشتقا من العربية (مرةً أخرى الشيء لا يشتق من نفسه). المستوى العامي والمستوى الفصيح هما مستويان من العربية يتقاربان حسب انتشار التعليم وتوحيد السياسيات اللغوية إلخ
9- سكان الجزائر والمملكة المغربية رغم ما داخل لهجتهم يسمونها عن حق العربية ولكن يعتبرونها المستوى العامي (مستوى العربية الدارجة) ويميزونه عند الحاجة عن المستوى الفصيح.
ونفس الشيء ينطبق على التوانسة والمصريين والشوام والعراقيين والخليجيين إلخ بغض النظر عما اعترى لهجاتهم من اللحن وما دخل فيها مما استعارته من لغات أخرى.
وهذا هو الطبيعي لأنّ وحدة اللغة لا تعني القضاء على تمايز المستوى الفصيح ومستوى العاميات حتى في اللغات التي عَملتْ حثيثا على تقريب المستوييْن العامي والأكاديمي عبر التعليم والسياسة التربوية إلخ . كما هو حال الفرنسية التي حاولتْ أن تقضي ليس فقط على لغات فرنسا الأخرى ولكن أيضا حتى على تباين مستوييها هيَ بيْن عامي ومكتوب وعُـــرفتْ بتطرّفها في ذلك من بين كل اللغات لأسباب تاريخية معروفة (تدور حول تطرف المركزية اللسانية التي فرضتها الدولة الفرنسية منذ قرون) ولكنّ الفرنسية مع ذلك ما تزال متمايزة إلى مستوى أكاديمي ومستوى العاميات أو المحكيات غير الأكاديمية.
10- هذا التقابل المتوهم عند الموريتانيين والصحراويين بين مستويين من لغة واحدة يَخلق سوء تفاهم مستديم بين الموريتانيين وغيرهم خصوصًا حين يزعم الموريتانيون أن لهجتهم هي الأقرب للفصحى (وكل اللهجات العربية تدعي ذلك ولها حججها، بل أغلب اللهجات في اللغات الأخرى تزعم أنها الأقرب لفصحاها هي).
ولكن الموريتانيين حين يزعمون ذلك يعبّرون عنه بعبارة تناقضه، فيقولون : الحسانية هي الأقرب إلى العربية (يقصدون طبعًا الأقرب إلى الفصحى). والذي يَسمع ذلك من غير الموريتانيين يحسب أنهم يقصدون أنها لغة أخرى غير العربية ولكنها شبيهة من أوجه معينة بالعربية كالعبرية أو السريانية تقترب في جذورها من العربية أو ربما يفهم أنها كالسواحلية التي تستعير كثيرا من مفردات العربية ولكنّه لن يفهم أنهم يقصدون أنها في نظرهم أقرب لهجات العربية إلى فصحاها.
وحكايات سوء التفاهم الذي ينتج عن هذا يومية في بعض البلدان التي يهاجر إليها الموريتانيون. بما فيها الأقرب. حتى أن سوء التفاهم هذا وصل بحسن نية أو سوئها لدستور أحد البلدان القريبة.
11- لا يوجد تقابل له معنى بين لغة ما وفصحاها أو بين لغة ما وإحدى عامياتها. اللغة تقال للمستوين معًا الفصيح والعامي. وللتذكير فالمــستوى الفصيح يطلق عليه أيضا حسب السياقات المستوى المكتوب، أو الأكاديمي أو الأدبي أو العالْم أو المعياري أو العالي، والمستوى العامّي يُطلقُ عليه أيضا حسب السياق المستوى الشعبي أو المحكي أو الدارج أو اللهجي.
12- العربية (التي يُطلِقها الموريتانيون حصرًا على الفصحى) لا يمكن الحديث عنها جديًا في مقابل العربية الحسانية أي في مقابل عاميتها (إحدى عامياتها) إلا لدى الموريتانيين. ويَعتقد بعض الباحثين أن ذلك ناتج عن بعض صراعات الزوايا وحسان في القرن السابع عشر والثامن عشر على امتلاك المشروعية الرمزية (الفصحى للزوايا مرتبطة بالشرعية الدينية ولا يُراد لها أنْ تُدنّس وتشترك في الاسم مع عربية بني حسان حتى ولو أصبحتْ الأخيرة لأسباب كثيرة اللهجة العربية المشتركة للجميع في غرب الصحراء الكبرى)، وصراع المشروعية الرمزية اللغوية واضح في بعض النصوص الموريتانية الصحراوية المبكرة التي تعود لأواخر القرن السابع عشر مثلا. ومع الزمن شاع في الاستعمال التمييزُ بين المستويين كأنه بين لغتين وأصبح جزءا من اللاشعور الجمعي للناطقين بالعربية الحسانية وانغرس في مخيالهم اللساني وفي لا وعيهم الدارج.
13- من شدة ما يعانيه أغلب الموريتانيين والصحراويين من رسوخ فكرة أن العربية تقال فقط للعربية الفصحى أن بعضهم كثيرا ما يروي على سبيل التنكيت أنه وجد الناس في البلد العربي الفلاني يحيلون إلى لهجتهم بوصفها عربية (باستخدام صفة العربية بالتأنيث في بلدان المغرب أو صفة العربي بالتذكير في المشرق). والموريتاني أو الصحراوي يروي ذلك تقليديًا بنوع من السخرية ومطلق الاستغراب. والأخطر هنا ليس أنه لا ينتبه إلى أن ما يستغرب هنا - أي أن العربية تقال مغربًا ومشرقًا للفصحى والعاميات كمستويات من نفس اللسان - هو محل إجماع لدى المجتمعات الناطقة بهذه اللغة في المشرق والمغرب قديمًا وحديثًا كما هو محل إجماع لدى النحويين قديما ولدى الألسنيين حديثا، بل الأخطر انه لو اتبع المهتمون في العالم بتصنيف العربية بين اللغات اصطلاح الموريتانيين والصحراويين في أن العربية لا تقال إلا للفصحى لأسقطت التصنيفات الدولية أغلب الناطقين باللهجات العربية من إحصائياتهم للناطقين بهذه اللغة ولحصروا عدد الناطقين بالعربية إحصائيا في الناطقين بالفصحى فقط أي لحصروهم في أقلية من المتعلمين الذين لا يتحدثونها إلا في سياقات عالمة أو رسمية معينة وهو ما سيفقدها تلقائيًا مكانتها كرابع (في بعض الإحصائيات ثالث) أو خامس لغة عالمية ويجعلها تبعًا لذلك تفقد كل امتيازاتها المترتبة على كونها تعتبر حاليًا احدى اكثر اللغات العالمية انتشارًا بعد الصينية وفي منافسة - بخصوص عدد الناطقين بها - مع الأسبانية والإنجليزية والهندية الأردية. وسيحولها حصرها في الفصحى - مذهب الموريتانيين والصحراويين- إلى لغة شبه ميتة تنتمي للخطب الخشبية وللمكتبات والمدارس القليلة نسبيًا في العالم العربي أكثر من كونها لغة حية يتحدثها ما يناهز النصف مليار ويتعلمها ما يقارب المليار.
الحمد لله إذن أن تصور الموريتانيين والصحراويين الذي يحصر العربية في الفصحى هو تصور خاص بهم وأن العرب الآخرين كما الألسنيين يطلقون العربية على العاميات كما على الفصحى ولولا ذلك لاختفت العربية من الحسابات اللغوية في العالم مع كل ما يترتب على ذلك بالنسبة للناطقين بها من انعكاسات كارثية اقتصاديا وسياسيا وتربويا إلخ.
14- في الخلاصة :
ا- للتسميات والاصطلاحات السائدة سلطة كبيرة في عالم اللغات والمفاهيم وفي التصورات والتمثلات الجماعية لدى مختلف الشعوب. وحتى لا يساهم الموريتانيون والصحراويون في إضعاف تصنيف اللغة العربية عالميًا (التي تعاني تحديات كثيرة أبرز أسبابها ضعف الدول العربية بل وانهيار أغلبها) وحتى يستطيع الناسُ في العالم أن يفهموا الموريتانيين بخصوص ما ينطقون به وحتى يكون للنقاش معنى ما، يَلْزَم أن يكفّ الموريتانيون عن محاولة حصر إطلاق تسمية العربية على مستواها الفصيح وعن محاولة تمييزها حديا اسمياً عن العربية الحسانية كأنهما لغتان، فالفصحى تبدو كأنها بالنسبة لهم هي حصرا العربية وهذا مخالف لواقع الحال راهنيا ومخالف لواقع الحال عبر التاريخ ومخالف لواقع كلّ اللغات ومخالف لإجماع النحاة والالسنيين عربًا وأجانب (يمكن بهذا الخصوص الاطلاع مثلا على David Cohen, Le Dialecte arabe Hassaniya de Mauritanie, 1963
https://www.amazon.fr/Dialecte-arabe-Hassaniya-Mauritanie-1963/dp/225200...)
الفصحى هي المستوى العالِم أو الأكاديمي أو الأدبي أو المعياري (كل هذه الصفات يجري استعمالها في الألسنية) من العربية.
والعربية الحسانية مثلا (أو العربية الجزائرية أو العربية المصرية إلخ) هي أحد المستويات الشعبية من العربية بغض النظر عمّا تستعيره اللغة، كل لغة، من اللغات الأخرى (والطبيعة الفطرية لكل لغة في مستوييها الفصيح والعامي هي استعارة بعض المفردات من لغات أخرى وهو جزء من فطرتها وحيويتها).
العربية كلغة تقال لسانيا للمستوين معًا: الفصيح والعامي.
كتبه نقلا عن غيره الفقير لرحمة ربه هيان ابن بيان