أدي آدب
تخْصيصُ يوْمٍ للغة العربية–في العام- مُهِمٌّ، لكنَّ الأهَمَّ أنْ نَجْعَلَ الأيامَ كلَّهَا للُغَتِنَا الجَديرةِ بالتكْريمِ، عَقدِيا، وقوْمِيا، ووطِنِيا، واحتفالاً بهذه المُناسَبَةِ، يَطِيبُ لِي أنْ أشَارِككمْ هذهِ الخَواطِرِ.
فاللغة –في حَدِّها الأدْنى- سلسلةٌ من المُفْرَدات، المُعَبَّأةِ بالمَعاني، في إفْرادها وترْكيبها، وبما أنَّها تُنْجَزُ عبْرَ جهاز مُشْتَرَكٍ بينها وبين عملية التنفس، فقد اقتضتْ هذه الوظيفةُ الحَيَويةُ المُزْدَوجةُ أنْ تكونَ عمليتَا التنفس والتكلم معًا يلتبسُ فيهما الفيزيولوجي، بالسيكولوجي. ولهذا كان إنْجازُ الجُمَلِ الكلامية، محدودا مَدَاه، بمَدَى جدَلِية الشهيق والزفير، ونظرًا لعلاقة هذه الجدلية، بالحالة النفسية، والطقسِ الشعوري، فإنَّ الجُمَلَ المُنْجَزَة في لحَظَاتِ الانْفِعَالِ المُحْتَدِمِ، تكونُ- حتْمًا- قصيرةً، مُتلاحِقةً، حسَبَ تلاحُقِ أنْفاسِ المُتكلَّمِ المُنْفَعِلِ، خلافًا لأخَوَاتِها المُنْجزة في جَوٍّ نفْسي هادئٍ، فإنَّها تكونُ أكْثَرَ امْتدادًا، وأقلَّ توَتُّرًا.
وفي ضوْءِ هذه الرُّؤْيةِ يبْدو جهازُ اللغةِ مُعَزَّزًا بمَنْظومةٍ من التَّعابيرِ الانْفعاليةِ، تُجَسَّدُ في الكِتابةِ بعَلاماتِ الترقيم، وفي الإلقاءِ بعلاماتِ التنغيم الصوتية، إضافة إلى لغةِ الجسَد الحركية الإشارية، التي يُمْكِنُ أنْ أسمِّيها بعلامات التهْويم. حيث إنَّ العلماء المعاصرين أعطوا للأبعاد غيرِ الملفوظةِ منْ تعابيرِ الكلامِ نسبةً أكثرَ من ثمانين بالمائة.
ومادام "لِكلِّ مَقامٍ مَقالٌ"، فإنِّي لاَ أقْصرُ "اللَّحْنَ" -في اللغة- على الإخْلالِ بقواعدِ الإعراب، والصرفِ، حسَبَ مَفْهُومِه التقْليدي، وإنَّما أعْتَبِرُ الإخْلالَ بكُلٍّ من الترقيم، والتنغيم، والتهويم، لحنا أيضا.
وإذا كانت علاماتُ الترْقيم مَعْروفةً، وضَرُوريًةً جدًّا لتفْصيلِ المكتوب وتزيينه، وتوضيحه، فإنَّ علاماتِ التنْغيم، لا تَقِلُّ عنْها أهَمِّيةً، لأنَّها تُرَاعَى -هي الأخرى- لتفْصيلِ الكلام المَنْطُوقِ، وفق إيحاءاته الدلالية، وكذلك علامات التهويم، فالأولى: تُكْتَبُ فوْق البياض إمْلاءً، والثانية: تُكْتَبُ- صوتيا- في الأثير إلْقاءً، والثالثة: تكتب-حركيا- في الفضاء إيماءً، والانْتباهُ للمَواقِعِ الدقيقةِ لها جميعا، من خُصوصياتِ الأذْكياءِ، حيثُ تَتَلَوَّنُ الدّلالاتُ بِوُجُودِهَا، ويَضِيعُ كثيرٌ من المَعاني بدُونها.
وكلُّ هذه العلاماتِ الآنفةِ الذِّكْرِ: وسائلُ إيضاحِيةٌ لتَلَوُّنِ الدلالات الأسْلوبية، على مُسْتَوَى الكلام المكتوب ،والمسموع، والمَرْئي، وإذا رَجَعْنا إلى قصةِ إنْشاءِ النحو العربي سنجدُها مُنْبَعَثةً من عدَمِ قُدْرَةِ ابنة أبي الأسْود الدؤلي علَى التمْييزِ صوْتيا بيْن هذه الأسَاليبِ، حين قالتْ لهُ ذاتَ ليْلةٍ صحْراويةٍ، جميلةٍ: "ما أجْمَل السماء"، فظنَّها أبُوهَا تسْألُه، في حينِ كانتْ تُعَبِّرُ عنْ تَعَجُبِهَا من جَمَالِ السَّمَاءِ، حيثُ إنَّ لِكُلٍّ منَ التَّعَجُّبِ، والاسْتِفْهَامِ، والإخْبَارِ نَبْرَته، الصوْتية، وإشَارته الحركية، مثلما له علامتُه الترْقِيمية.
صحيحٌ أنَّ العربَ لمْ تكنْ تحْتاجُ حتَّى إلى "وضْعِ النقاطِ على الحُرُوفِ"، ولا إلى التشْكيل.. وقدْ قَضَى القرآنُ ردحًا من الزَّمَنِ، يُتْلَى ويُتَدَارَسُ بدُونِ تَنْقِيطٍ ولا تَشْكِيلٍ، ولكنَّه عنْدَما ضَعُفَتْ السَّليقَةُ العربيةُ لمْ تَمْنَعْه قُدسِيَّتُه، ولا كوْنُ "رَسْمِه" "توْقيفيا"، مِنْ تقبُّلِ عَلاَمَاتِ الترْقيمِ البدائية(التنْقيط والتَّشْكيل) في بِدَايَةِ العَصْرِ الأموَيِّ، كما أنَّ إحْسَاسَهم بالطاقة التعْبيرية لعَلامَاتِ التنْغيم، ربَّمَا يَتَجَلَّى من خِلالِ تعْريفِهم للبَلاغَةِ، مَرَّةً، بأنَّها هي: أنْ تُفْهِمَ الجَارِيةَ العَجْمَاءَ، في الليْلَةِ الظلْمَاءِ"، اعْتِمَادًا علَى إيحَاءَاتِكَ الصَّوْتِيةِ، فقطْ، بعيدًا عن التعابيرِ المَرْئِيةِ إمْلاءً، وإيمَاءً
الخُلاصَةُ أنَّ هذه الأبْعَادَ تنْدَرِجُ في فنِّ الأدَاءِ "الإلْقاءِ" الذي أصْبَحَ حقْلاً أكادِيمِيًّا مُعْتَمِدًا، في دِراساتِ المَسْرَحِ ،والسِّينَما، والشِّعْرِ، والمُنَاظَرَاتِ الخِطَابِيةِ.....لأنَّ النِّسْبَةَ الأكْبَرَ من التَّوَاصُلِ اللغَوي، ترْجِعُ للواحِقِ الكَلامِ: حَرَكَةً، وتنْغيمًا، وانْفِعالاً، وإضاءَةً، وديكورًا.. فكُلُّ ذلكَ أساليبُ لُغَوِيةٌ. تَحْتاجُ العَرَبِيةُ إلى اسْتِثْمَارِها، لتعْزيزِ ضمَانِ اسْتِمْرارِها.
أدي ولد آدب