بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك، قررت اليوم أن أروي لكم قصة جديدة من القصص التي حدثت معي خلال فترة عملي مع بني الأصفر.
كنت ضمن فريق خلية دعم مجموعة نواكشوط الحضرية، في إطار مشروع تموله هيئة جزر فرنسا وتنفذه منظمة GRET، كان فريق العمل يتكون من رئيس المشروع، وهو شاب فرنسي الجنسية يدعى "نيكولاس بيرين" و الزميل دمب بن صمب وهو مهندس مياه مقتدر موظف في المجموعة الحضرية،ممسك بناصية اللغتين العربية والفرنسية، وقد وقع اختيارنا عليه ليكون ضمن الفريق بفضل تميز سيرته الذاتية، وذلك في إطار حرص المنظمة على تحويل الخبرات إلى كوادر المجموعة الحضرية، إضافة للزميل الشيخ التيجاني زهو مهندس مدني تم اكتتابه من طرف المنظمة للعمل على الشق الخاص بالأسواق، وقد التحق بالإدارة الفنية للمجموعة الحضرية بعد انتهاء المشروع ، دون أن انسى السكرتيرة المقتدرة عيش رمضان.
كنا نعمل كخلية نحل، وتمكنا من إعداد دراسات هامة في الفترة ما بين 2006 - 2009 تتعلق بحجم المياه التي يتم استهلاكها في مدينة نواكشوط، وحالة الأسواق التجارية، ووضعية الصرف الصحي السائل في العاصمة، كما أشرفت شخصياً على تنظيم لقاء بين الممولين ومنتخبي البلديات وبعض الناشطين في مجال المجتمع المدني، إضافة إلى تنظيم العديد من الدورات التدريبية لعمال المجموعة الحضرية، ومنتخبي بلديات العاصمة التسع.
توطدت علاقتي برئيسي في العمل، وهو شاب ثلاثيني حاصل على شهادة الماجستير في علم الاجتماع، وهو عضو في منظمة المتطوعين الفرانكفونيين، وقد عمل لعدة سنوات في مالي، ثم اكتتبته منظمة البحث والتبادل التكنولوجي لإدارة فريق الخلية. ولم تمر عدة شهور حتى بات ملماً بالسياقات المحلية المتعلقة بمجالات عمل الخلية وهي "المياه، الأسواق، والصرف الصحي السائل"، وقد سألته عن الكيفية التي تحصل بها على هذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة في وقت وجيز، فقال لي إنه اقتنى أغلب الدراسات التي أجريت في موريتانيا حول المجالات الداخلة في صميم عمله، وكان يخصص عطلة الأسبوع لمطالعة إحدى تلك الدراسات، ويقوم بتلخيص المعلومات والبيانات التي تهمه. وقد أخذت عنه تلك العادة الحسنة.
استدعاني "نيكولاس" عدة مرات لتناول العشاء في بيته الواقع قرب ثانوية تفرغ زينة، وتعرفت على زوجه "إيميلي" المتخصصة في البرمجة المعلوماتية والتي قررت التفرغ لتربية الصغيرة "مايا" التي رزقت بها بعد وصولها إلى موريتانيا. كما استدعيت بدوري نيكولاس وزوجه عدة مرات لتناول العشاء في مطاعم العاصمة الراقية، كنوع من رد جميل لدعواتهما المتكررة لي في بيتهما.
حل شهر رمضان المبارك سنة 2008، وكان فريق الخلية يواصل العمل بجد لإنجاز الأنشطة المبرمجة، إضافة إلى الاستشارات المستجدة والمستعجلة التي يطلبها رئيس المجموعة الحضرية السيد أحمد حمزة، وكان الخبراء الفرنسيون معجبون بجديته في العمل، ورغبته في تطوير المجموعة الحضرية، إضافة إلى صرامته في العمل والكاريزما التي يتمتع بها، حلت على قبره شآبيب الرحمة والمغفرة.
انتهزت فرصة أول عطلة أسبوع في رمضان، لأخذ سنة صباحية من النوم، وبعدما استيقظت لاحظت وجود مكالمة فائتة من زميلي الفرنسي، فتواصلت معه، واعتذر لي عن الإزعاج والاتصال في وقت غير مناسب، ثم أخبرني أنه قرر أن يقوم بتجربة الصوم غداً، وطلب مني ما إذا كنت مستعداً لاستقباله في البيت لكي يتناول الفطور معي، وفي نفس الوقت يطلع على طريقة إعداد الفطور والعادات والتقاليد الموريتانية خلال شهر رمضان، فرحبت به وشجعته على الفكرة، وأكدت له على ضرورة الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر حتى مغرب الشمس، فوافق على ذلك، كما اتفقت معه على التوقيت المناسب للزيارة، وحددت له مكان المنزل في حي كارافور.
كانت الساعة تشير إلى الساعة السابعة صباحاً عندما أيقظني رنين الهاتف، فإذا بالمتصل هو صديقي نيكولاس وبعد تبادل التحية، قال لي أنه يأسف على الإزعاج إلا أنه وقع في خطأ جسيم...
(الجزء الثاني)
**
أخبرت الوالد حفظه الله، بأن زميلاً في العمل سيفطر معي الليلة، وأنه يقوم بتجربة صوم المسلمين لأول مرة في حياته، فرحب به وقال لي إن جمهور العلماء متفقون على أن الكفار مخاطبون بالفروع، فقلت له إنه يسعى إلى التعرف على العادات المجتمعية المرتبطة بالصوم ، فهذا أول رمضان يحل عليه في موريتانيا، ثم تركت الوالد يكمل ورده القرآني، وذهبت إلى السوق لشراء بعض الأغراض والمستلزمات.
كان "نيكولاس" دقيقاً في مواعيده، فقد وصل عند تمام الساعة الخامسة مساء إلى محطة البنزين التي تقع قبالة ثانوية عرفات، وعندما وصلت إليه لمساعدته على إيجاد مكان لركن سيارته، قدم لي هدية عبارة عن كيسين من التمر التونسي الجيد فشكرته وقبلت هديته، ثم دخلنا المنزل، وحياهم بتحية الإسلام، وذهبنا إلى الصالون.
سألت نيكولاس عن حاله مع الصوم، وهل عانى من ألم في الرأس بسبب عدم تناوله للقهوة واستعماله للسجائر، فابتسم وقال لي لقد نجحت في مقاومة تلك الرغبات، ثم جدد اعتذاره وأسفه عن إيقاظه لي في الصباح الباكر، فقلت له إنه حسناً فعل، فقال لي إنه نسي أن يستعمل دواء الضغط قبل النوم، وهو دواء لا يجوز التهاون في استعماله وكنت أمرته في الصباح باستعماله فوراً، خشية أن يؤثر ذلك على صحته.
بدأ الإخوة ينظمون مائدة الإفطار، ويرصون الصحون، ويرتبون الحلويات، والعصائر والشوب، وكان زميلي يتابع ذلك باهتمام، ثم استأذنني في أخذ صور من المائدة فوافقت، فأخرج جهاز تصوير من حقيبته وأخذ عدة صور من زوايا مختلفة.
دخل علينا الوالد، فقدمت له "نيكولاس"، وبعد تبادل التحية والسلام، خاطبه الوالد قائلا إن أخذ الفكرة المسبقة عن الديانات خطأ يقع فيه الكثير، وكذلك الحكم عليها من خلال أفعال وأقوال معتنقيها، وأنا أشجعك على تجربة خوض الصوم، فلا شك أنها ستعطيك فكرة عن فوائده الصحية والاجتماعية والروحية، كما أقترح عليك أن تطلع على نسخة مترجمة من القرآن الكريم، فهو كتاب نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا، ولم يتعرض للتحريف لأن الله التزم بحفظه، كان نيكولاس يحدق إلى الوالد بعينيه الواسعتين، وينصت باهتمام لما يقوله، ثم بدأ الوالد يشرح له التقاليد الموريتانية المرتبطة برمضان، فبدأ له بمقدمة تعريفية عن مكونات المجتمع الموريتاني والحيز الجغرافي الذي يشغله، وانتقاله من حياة البدو الرحل إلى الاستقرار والتحضر والتحولات الاجتماعية التي صاحبت قدوم الاستعمار، كما نبهه إلى أنه على الرغم من تعرف الموريتانيين المتأخر نسبيا على الشاي والأرز والقمح ، إلا أن تلك المواد دخلت بقوة في صلب العادات الغذائية الموريتانية على حساب الزرع والقطاني.
سأل "نيكولاس" الوالد عن فوائد الشاي الأخضر وطريقة إعداده، فقال له إنه أدرك العجائز يقلن إن العديد من الأمراض الباطنية الخطيرة اختفت بعد انتشار استعمال الشاي في هذه الربوع، وأن عدد دوراته ثلاث وليس من المحبذ في العرف الموريتاني مغادرة الشخص لمجلس الشاي قبل إكمال شربه، وقد أثار فضول الفرنسي كثرة الأطعمة وتعدد الأطباق ، وفجأة سأل الوالد عن السر وراء حضور البطيخ بكثرة على المائدة، فضحكنا من السؤال، وأخبره الوالد عن لحدج ماهو براني هون.
تحلقنا مجدداً حول المائدة، بعد أداء صلاة المغرب، كان "نيكولاس" يستخدم وسيلة الملاحظة، وربما قيد بعض المسميات الحسانية في دفتره، وقد أخبره الوالد أن نوعية التمور المحلية جيدة ولذلك يفضلها الموريتانيون على التمور المستوردة، وفي ذلك اعتذار ضمني لنيكولاس عن عدم حضور هديته على المائدة ، وقد سأل الأخير الوالد عن سبب غياب العصائر المصنعة عن مائدة الإفطار، فأجابه بأن توفر الفواكه الطازجة وآلات العصر مكن الأسر الموريتانية من صناعة العصير الطبيعي الخالي من المواد الحافظة، ثم ذاق كوبا من "النشاء" تغلي جوانبه وسأل عن مكوناته، فذكرها له الوالد، فطلب مني أن أساعده في الحصول عليها لأنه أعجبه طعمه وسيحاول صناعته في المنزل، فقلت له إنها الوجبة الوحيدة التي أتقن صناعتها، وأنني سأساعده في تعلم كيفية إعدادها، وهنا روى لنا الوالد قصة شعبية متداولة، ملخصها أن طبيباً تقليدياً جاء إلى حي من "البيظان" بنية الإقامة وممارسة مهنة الطب، وبعد مرور عدة أيام لاحظ حرص كل خيمة على وضع تنور على النار في الصباح، فقرر القيام بجولة في الحي، حيث قام بكشف أغطية المراجل فوجد دقيق الزرع يغلي بداخلها، فطوى أمتعته ورحل وقال لهم إن وجبة الحساء مفيدة للصحة.
تعددت مجالات أسئلة "نيكولاس" ، ما بين التاريخ والجغرافيا والعادات الغذائية، وقد لاحظت أن الوالد يحرص على إجابته ومجاملته، ثم تناولنا أكؤس البراد التالي، وأزف موعد صلاة التراويح، فودعنا نيكولاس، وقدم له الوالد حقيبة تحتوي على بعض مستلزمات الصناعة التقليدية وبعض الثياب المحلية، ففرح بها وركب سيارته ورجع إلى بيته.
كان من عادة فريق الخلية أن يعقد اجتماعا بداية الأسبوع لتقييم حصيلة الأسبوع المنصرم وبرمجة الأنشطة المستقبلية، وكان رئيس منظمة GRET يحرص على حضوره، وفي نهاية الاجتماع قال "نيكولاس" إنه لديه موضوعاً مهماً يريد أن يحدث به الحاضرين.
قال "نيكولاس" إنه خاض تجربة الصوم المهمة والغنية وقد خرج ببعض الاستنتاجات والقرارات وهذا ما تذكرته منها:
- لقد عانى نفسياً من تناول زوجه للغداء والقهوة أمامه، وقد قرر عدم تناول القهوة مستقبلاً في المكتب طيلة شهر رمضان.
- بعد منتصف النهار وجد صعوبة في العمل الذي يحتاج جهداً فكرياً، ولذلك قرر أن لا يطلب من أعضاء الفريق أي عمل يحتاج للتحليل بعد الساعة الواحدة ظهراً.
- لاحظ خلال تناوله للفطور معنا، أن العمل المنزلي تقوم به النساء، وانطلاقا من ذلك فقد قرر أن يمنح السكرتيرة عيش رمضان رخصة العودة إلى منزلها بعد الساعة الواحدة، لكي تستريح قبل العمل الكثير الذي ينتظرها في البيت.
- إن التزام الموريتانيين بشعائر الدين الإسلامي ينبع عن دراية وعلم موسع وفهم صحيح، وصومهم ليس مجرد طقوس وعادات دينية كما يحدث في بعض دول الجوار.
- تعجب من استقبال الوالد له، ومن إتقانه للغة الفرنسية، خاصة أنه يعلم أن المشائخ مشغولون في العبادة في ليالي رمضان، وهو ما فسره "نيكولاس" بأن الشعب الموريتاني كريم ومضياف ومتسامح حتى مع الأجانب الذين لا يعتنقون الإسلام، وهو ما ينفي تهمة الغلو والتطرف التي بات الحديث عنها كثيرا في الغرب،
ثم انفض الاجتماع.
انتهت القصة
يعقوب بن اليدالي