تزكرار السِّت (الجزء الخامس)

سبت, 04/15/2023 - 03:52

أخذ أعضاء عصر "لسياد" أماكنهم في سكنهم الجديد، فكان بل بن ديد وعبدو يفضلان الجانب الغربي من الخيمة، واستلقى "التاه بن حلاب" بقربهما، بينما اختار "سيد بن ناصر" و"محمدن بن عبدالله" مكانين قصيين في الأطراف، وكان موضوع سمرهم الرمضاني تلك الليلة هو حضور القرآن الكريم وعلومه في انيفرار، حيث قال "بل بن ديد" إن  علماء الحي كانوا سباقين إلى التأليف في علوم القرآن في منطقة القبلة، حيث يعتبر كتاب مورد الظمآن للشيخ العالم أشفغ عبدالله بن أعمر أحد أقدم المراجع في فنه، ثم أردف "عبدو بن بك" قائلا إن الشيخ محمد اليدالي بن محمد سعيد اعتمد عليه في نظمه لما حذف من الألفات قائلا:

بل نقتفي ترجيح عبدالله * العالم العلامة الأواه

ثم تدخل الملك - كما يحلو لأصحابه أن يلقبوه- قائلا إن سند القراءات السبع الذي جلبه الشيخ العلامة عبيدي بن محمذن بن أشفغ عبدالله بعد عودته من رحلته العلمية يعتبر من أعلى الأسانيد في إكيد، فتدخل "التاه بن حلاب" مستفهماً عن أي أفخاذ أهل لخيام حفظا للقرآن، فأجابه "محمدن بن عبدالله" قائلا إن الحفاظ متفرقون بين جميع افخاذ وأسر الحي والحمد لله، إلا أن الشيخ الهيبة بن محمذن بن أعمر كان ماهراً في كتاب الله وتركها كلمة باقية في عقبه، فقاطعه بل بن ديد قائلا "نحن ذو لسياد أطيبن سرات ألا امين ول حامد وحامد بن يحظيه وانت التاه"
ضحك "عبدو ول بك" وضرب يد صديقه بل وأردف قائلا" "التاه ماتل طايب عندو ماهو سورة الدخان"،  ثم تدخل "سيد بن ناصر الدين" مذكرا بما خص الله به أسرة أهل ألفَ بن الزبير من المهارة في كتاب الله وترتيله وتدريسه،  ثم أضاف إنه سمع من الشيخة الحافظة أيَّمْ بنت أحمدو سالم أن مقبرة "انيفرار لكبير" تضم الكثير من القراء الحفاظ وأن زيارتها مجربة لحفظ كتاب الله.

أشعل "بل بن ديد" سيجارة، وثنى وسادة ووضعها تحت مرفقه الأيمن، ووجه حديثه نحو أصدقائه قائلا: إنه لاحظ أن منهجية مشائخ الحي في "تنزال القرآن" مختلفة، ففي حين يختار الشيخ محمذ باب بن داداه حزبين من "الخمساية" ويعين  للطالب  "ثمنين" من كل حزب،  فإذا استرجعهما من حفظه دون خطإ اعتبر ذلك مؤشرا على إتقانه للحزبين من جهة، وللخمساية من جهة أخرى. وهكذا دواليك.  في حين يطلب الشيخان سيد المختار بن سيد لغليظ وأحمد سالم بن ابا من الطالب أن يقرأ القرآن كاملا من حفظه من البقرة إلى سورة الناس، وهنا تدخل "التاه بن حلاب" قائلا أنه كان يتمنى أن يرسله الشيخ احمادَ بن ابا إلى الشيخ الحافظ سيد بن النجيب ليجيز له قرآنه، ولكنه بعث به إلى   ذاك لمرابط الذي أمضيت معه عشرة أيام أساعده في تسييج حرثه وبذر هبيده، فضحك الجمع من تلك النكتة الطريفة، وشرعوا في تناول وجبة السحور المكونة من العيش ولبن البقر. ثم خاطب "عبدو بن بكي" بل قائلا: "حكلل اشنبت أبيات "دِيدِ" اللي كالك فخبار تَلْهُمِّيتْ"، صمت بل قليلا فقد كان مشغولا في البحث عن سواك من الأراك في جيبه، ثم أجاب صديقه قائلا:  لقد كنت في صغري خائفا من "تلهميت" وهي قلادة افتراضية من البعر  يهدد بها الشيخ الطالب الذي يتهاون في حفظ لوحه، ويتوعده بتعليقها في جيده أمام الطلبة،  وإليها يشير "دِيدِ" في قوله:

يا بلي يا بلي إن اللوح قد آنا ** وقت المسير اليه فاذهب الآنا 
واحذر قليدة يا بلي من بعر* تقليدها لم يكن في الجيد مزدانا

بدأ الجمهور في التوافد زرافات ووحدانا إلى خيمة أهل ألما، وكانت المقطعات الشعرية التي ينشدها "التاه" أثناء تقليده للأيمة الحفاظ، قد أصبحت على كل لسان، وحفظها المراهقون والنساء وبلغت الشيوخ ونالت استحسانهم. وكانت العشر الأواخر على الأبواب وبدأ دخول القمر  للسماء يتأخر، كان صدر المجلس يترك للشاب المبدع التاه بن حلاب، ويجلس زملاؤه بالقرب منه، بينما يتحلق الحضور أمام الخيمة، ومنهم من يفضل الجلوس خلف "أكورار" واستراق النظر من ثقب يفصله عن الخيمة.

بينما كان أعضاء عصر لسياد ينظمون الجلسة، إذا برجل قادم من جهة "الكود"، يرتدي دراعة بيضاء ويعتمر رداء أسود، ويحمل "مغراجا" في يده اليمنى، ويمشي متئدا، ولما اقترب من الخيمة، سلم على الحضور بصوت جهوري وسألهم قائلا التاه ول حلاب هون؟ 
فالتفت الحضور إلى جهة الصوت متأكدين من أن صاحبه هو الشيخ يعقوب بن عبداللطيف، ثم شق طريقه بين الجمهور وهو يترنم بقول الملك الضليل:  
 
أماويُّ هل لي عندكم من معرس * أم الصرم تختارين بالوصل نيأس 
أبيني لنا إن الصريمة راحة * من الشك ذي المخلوجة المتلبس 
كأني ورحلي فوق أحقب قارح * بشربة أو طاف بعرنان موجس 
تعشى قليلاً ثم أنحى ظلوفه * يثير التراب عن مبيت ومكنس 
يهيل ويذري تربها ويثيره * إثارة نباث الهواجر مخمس 
فبات على خد أحمَّ ومنكب * وضجعته مثل الأسير المكردس 
وبات إلى أرطاة حقف كأنها * إذا الثقتها غبية بيت معرس 
فصبحه عند الشروق غدية * كلاب ابن مر أو كلاب ابن سنبس

ثم أعاد تكرار البيت الأخير  عدة مرات وهو يكرر حرف الكاف من كلمة "كلاب" وحرف السين من كلمة "سنبس" محاولا إخراجهما من مخرجيهما، فضحك الجمهور ، ودك لسياد بأرجلهم الأرض دكا، وتضاربوا أكفهم استحسانا وطربا لهذا الملمح الأخير، فقد وفق فيه "التاه" أيما توفيق، وعانقه بل بن ديد، ودخلا في موجة عارمة من الضحك، ثم سأله "بل" قائلا بالله عليك كيف توصلت لفكرة تكرار الكاف والسين فلعلها هي التي دفعت "النَّيْدْ" إلى اختيار هذا النص بالخصوص، فقال له "التاه" ....

يتواصل إن شاء الله

يعقوب بن اليدالي