
أول مرة ألتقي فيها محمد بن عيسى كانت سنة ١٩٨٦ ،عندما زار نواكشوط وهو يومئذ وزير للثقافة من أجل افتتاح الجامع المغربي والمركز الثقافي الملحق به ، وقد حضر معه وفد رفيع من كبار العلماء والمفكرين المغاربة. أثار انتباهي الخطاب المرتجل الجريء الذي قدمه الوزير الشاب الأنيق ذو الصوت الاذاعي الشجي ،وقد أخبرني في ما بعد أنه لم يناقش مضمون خطابه مع الملك الراحل الحسن الثاني لكن بعض مستشاريه المقربين أخبروه أن العاهل المثقف أعجب بالخطاب وقال لهم ” لم أكن أعرف أن بن عيسى رجل دولة من الطراز الرفيع ” ، وقد نوه بروح المبادرة لدى الوزير الشاب كما قدر ذكاءه وعفويته.
كان الوزير قد دخل وقتها منذ سنوات في مغامرة أصيلة، البلدة الصغيرة التي كانت تفتقد لكل مقومات المدنية الحديثة عندما رجع لها إبنها الوفي في نهاية السبعينيات، بعد سنوات من العمل في منظمة الزراعة العالمية كان أغلبها في افريقيا التي أحبها وعرف قياداتها ومثقفيها عن قرب ، وظل إلى آخر يوم في حياته شديد الارتباط بها ..ومن هنا ندرك سر العلاقة الخاصة التي ربطته بالرئيس السنغالي الأسبق الشاعر سنغور وبالشاعر الكونغولي تشيكايا تومسي، وكانا من ضيوف المدينة الأطلسية الجميلة التي احتفت بهما بعد رحيلهما..كما احتفت بمفكرين وشعراء وفلاسفة عرب من روادها مثل الفيلسوفين محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري ، والروائي الفذ الطيب صالح الذي كان يعشق أصيلة ويحب أهلها الطيبين الكرماء، والشاعر الفلسطيني محمود درويش وبلند الحيدري وغيرهم كثر لا يمكن حصرهم.
كان بن عيسى يصرف من ماله الشخصي على مهرجان المدينة، إلى حد رهن بيته الوحيد في قلب الحي القديم، الا أن الملك الراحل الحسن الثاني أعجب بالتجربة الوليدة وقرر دعمها بانتظام، وقد أرادها حسب حديثه مع صاحب المهرجان على نمط ” هايد بارك في لندن: فضاء مفتوح بسقف حرية لا محدود ” ،فاستقبلت وجوه الفكر والثقافة من شتى المشارب والاتجاهات..
وظل المهرجان الصيفي مناسبة منتظمة ، لا تتخلف، حتى عندما أصبح بن عيسى لمدة سنوات تسع سفيرا في واشنطن ثم وزيرا للخارجية ..في أصيلة يرتدي بن عيسى قبعة المثقف والإعلامي والفنان مع أنه الديبلوماسي المحنك ورجل الدولة المقتدر كما وصفة الملك محمد السادس..
لا أحد يصدق كيف استمر هذا المهرجان قرابة نصف قرن، و كيف حرص هذا الرجل الاستثنائي على متابعة كل أنشطة الموسم ،بما فيها تصور الموضوعات واختيار عناوين الندوات ،وإرسال الدعوات واستقبال الضيوف والاحتفاء اليومي بهم في بيته المفتوح وفي المنشآت الرائعة التي أقامها في المدينة مثل قصر الثقافة ومركز الحسن الثاني للمؤتمرات الدولية ومكتبة الأمير بندر بن سلطان..
لقد تسنى لي أن حضرت عددا كبيرا من مواسم أصيلة ،وفي هذه المناسبة السنوية السعيدة ، تعرفت على عدد هام من كبريات الشخصيات الفكرية والسياسية من العالم العربي وأفريقيا والغرب ،يجمعها كلها حب جارف لأصيلة ولابنها البار محمد بن عيسى الذي رفع إسمها إلى مصاف المدن العالمية الكبرى ..كما تسنى لي أن أرافق العزيز الراحل في رحلات كثيرة في الوطن العربي والعالم كله ،وكان في كل مرة نجم المناسبات الثقافية الكبرى التي يدعى لها ..
الجلسات الأخوية العفوية مع الوزير الفقيد مدرسة كاملة، تشحذ الفكر وتغني العقل وتدفع التفكير ..وكم حزنت كثيرا على أن الراحل لم يكتب مذكراته الغنية بالأحداث والمعلومات والآراء، رغم أن الكثيرين مثلي سمعوا منه بعض صفحاتها المشرقة الطريفة..
في هذه اللحظات الحزينة، اتذكر بمحبة وتقدير أسرته العزيزة وبصفة خاصة قرينته الفاضلة ليلى ونجله الأكاديمي المتألق أمين وبناته الكريمات..كما أتذكر أسرته الكبيرة من سكان أصيلة والوسط الثقافي المغربي الذي اجمع على احترامه وإكباره ورجال الثقافة والفكر في عالمنا العربي وقارتنا الإفريقية.
قصة بن عيسى أكبر من أي مقال وحديث ..والكلام عنه لا ينفد..رحمه الله برحمته الواسعة وانا لله وانا اليه راجعون