..............
عبد الله، صديق طفولة، من ذوات الدَّم الباهت، انقطع عنا في منتصف الثانوية، ولم يكن مستواه مُحفِّزًا له على التَّمكث طويلا في الِّدراسة، حضوره كغيابه.
ينتسب الفتى "لِـمَسْيَسَة" تقليدية يرتفع نسبها لصُلب الدولة العميقة، كان جدُّه وجيهًا تقليديا بختم المستعمر، صيَّر الوجاهة لابنه من بعدِ ضَعْفِ بختم المَخزن، ومن الأب للحفيد صديقي، الذي راكم الأيَّام فوق بعضها ينتظر انسحاب الوالد من شأن الحياة، ليستلم رأس مالٍ رمزي، سيكفل له مستقبلا مجانيًّا،.. فقد كُفيَّ بالولادة عبء الكدِّ العصامي.
التقطه شلال الوجاهة المبرمج والقى به رأسا الى المصب، ترشَّح عن دائرته الوراثية وفاز قبل الاستحقاق،.. أبانَ عن لسان موهوبٍ، ووجه مشبع بشيء غير صادق، وعن ضمير فضفاض من تلك التي لا تعاتب.
ورث صديقي "المسيسة" التقليدية بفَرثِ بطنها، بنَى عليها صرحًا سيبلغ به الأسباب، بَرَعَ في التَّمثيل، جادل، ناضل، ناقض، بدا مُمْتثلا لمصيره المريح، كنتُ أراقب مُداخلاته ببعض الإصغاء المُحايد، بين عبرة وحسرة على سنين ضيَّعها أترابه ملتصقين بأوهام الشَّهادات.
يعيش صديقنا مسترخيا على هامش الاحداث، جلسات موسمية تحت مكيِّفات عملاقة، تكفَّلت بنفخ حاله تكعيبيا، فتحوَّل المتخيلُ من المجد في حقه إلى واقع فوق الخيال من العيش الرَّفيه: مال ومكانة، وصيتٌ، وسطوة.. ولم يحتطب للدنيا بغير سُلالته ولسانه.. فذلك المجد التليد عليه أنْ لا يُذلَّ بالفقر.
اكتسبتْ حياته إيقاعا متسارعا وجهته الثراء، فقد حاز مهارة تحصيل فاق بها والديه.
فعلا،.. دفع مقابل المجد مجمل ماء وجهه دفعة، لكنه أضحى من الناخبين الكبار، فقد انخرط في نشاط سوق القطعان البشرية في المواسم الانتخابية.. لكن القطيع لا يُساق إلا بجزرة.. وعليه، يَستلم صديقي حقَّ القطيع من النَّاتج المحلي الخام في صور شتَّى، ويتفضل عليه بقيمة الجزة..
يدرك صديقي أن هذا المسار مضمون النجاح، وأيامه مزهرة، حصاده الثَّراء السَّهل من غير رأس مال معلوم، وألقابه ترفع للأعلى،.. هذا المسار يسيل له لعاب الجميع، وذلك سر التقاتل الشَّرس في طرقاته.
أتذكَّر ونحن شباب صغار نُرتِّب خطواتنا على باب المستقبل، نطرقه ونُحجم، أننا كُنَّا نُشفقُ على صديقنا الذي أضاع مستقبله بتركه الدراسة!. ما تزال صورته وقتذاك عالقة في منتصف عقلي.
في مساء من ذات زمن، حاول صديقي -في لحظة انتباه مباغت للفضيلة- أن يَجُرَّني لمنطقة ظلِّ في شخصيته، يحتفظ فيها -على حدِّ قوله- بقِطع من ضميره الأصلي، وقطرات من ماء الوجه، كان قد خزَّنَها لإعادة ترطيب وجهه، تحسُّبا لتخشُّبه،.. التمَسَ منِّي حُكمًا على جودتها، وهلْ ماتزال تصلح للإبهار، فَهَمُّ الرّجل الأول أن يُحافظ على المستوى الذي أصبح فيه.. لم ألحظ في بضاعته غير عُلبٍ فارغة.. حاولتُ التَّفلتَ من قبضة الحَرج، حتَّى لا أجيب بأني لا أفهم في قانون التَّضليل، وبأنه استنفدَ عدد المُحاولات المتاحة قياسيًّا لاستنساخ وجهه، وبأني أرفع الجلسة دون حكم..
حفَّز هذا الكائن السياسي المالي، غريزة الجنوح المرضي لشَرَهِ النَّفعية السَّهلة في هذه الأرض، بفضله ظُلم النَّجاح الماليّ، وأصبح مَحل تهمة، وأصبح الغنى- كل الغنى- محل ريبة، بل مجلبة للمسبَّة.
ومع ذلك صديقي مفخرة مُسجَّلة، تجتهد كل نخبة الكسل وتتسابق لتَكُونه.. الله يَحِفظُ.
----------