كنا فتية صغارا نؤجر غرفة في إحدى ضواحي مقاطعة السبخة، كنا نسميها القليس ونستخدمها -رسميا- للمراجعة استعدادا لامتحانات الباكلوريا التي كانت على الأبواب.
كنا نتبادل الزيارات مع بعض المجموعات المؤجرة بدورها في أماكن أخري حيث نناقش الآراء والمراجع ونستعرض التكهنات المتعلقة بمواضيح الإمتحانات.
لا ادرى مالذي جعلني أبقى وحيدا يومها في القليس لكنه بالتاكيد لم يكن الاجتهاد في التحصيل، فجاة دخل مجموعة من الزوار غير الموفقين، وبعد تبادل التحية كان لابد من القيام بواجب الضيافة المتمثل في إعداد المذق (الزريق) المحلى والشاي المنعنع والخبز بالزبدة، تلك كانت العادة التي يجب أن لا تكسر
كان الجيب فارغا كأكثر عاداته لكن الدكان المجاور (الكلْيانْ) لا يقصر في مثل تلك المواقف، وكم كانت الصدمة حين وجدته موصد البواب، سألت احد ساكني المنزل فأخبرني ان محصلي الضرائب مروا عليه صباحا واخذوا معهم ميزانه وهو إجراء كفيل بتعطيل العمل التجاري حينها وكافي لدفع تاجر التقسيط إلى التوجه نحو مصلحة الضرائب للتوصل معهم إلى اتفاق واسترجاع ميزانه
أظلمت الدنيا في وجهي فلم اكن اعرف غيره في المنطقة، وكان منزل الأهل بعيدا والعودة دون شروط الضيافة أهون منها الإنتحار
قررت المجازفة ببعض المخزون الإحتياطي من ماء الوجه، لم أتخير بين بقية الدكاكين فلم أكن أعرف أيا من أصحابها، استجمعت شتات شجاعتي المبعثرة بفعل مزيج من الخجل الفطري الذي كان جزءا من طبعي والإحراج المتولد من طلب الدين ممن لا سابق معرفة بيني وإياه خاصة أن حجم الفاتورة المطلوبة ليس بألامر التافه، الشاي والسكر والنعناع وياغورت وكولريا والخبز والزبدة، قد يقارب المبلغ مائة أوقية
دلفت إلى الدكان وبشجاعة حيرتني زمنا، قلت لصاحبه أنا طالب أسكن غير بعيد من هنا، جاءني بعض الضيوف وأريد منك أن تسلفني ما أكرمهم به ما شاي ووو، وأعدك بسداده دون تاخير
كنت وقتها في السابعة عشر من عمري وكنت نحيلا حد الهزال ولا تشي ملامحي بالثقة لمحدثي خاصة إذا تعلق الأمر بالتزام مالي، لم أكن مطلق من متتبعي الموضة وكثيرا ما لا متني والدتي حفظها الله على زهدي المبالغ فيه وعدم اهتمامي بمظهري الخارجي.
نظر الرجل إلي متفرسا في وجهي لحظة حسبتها دهرا، ظل وجهه خاليا من أي تعبير كما لو كان قطعة ملساء من الخشب
كان في الخمسينات من العمر على ما قدرت، حنطي البشرة حيادي الملامح يتحرك ببطئ ودون كلام كما لو كان روبوتا أخرس
ودون أن ينبس بكلمة، مد يده تحت الطاولة الخشبية وأخرج حزمة من أرغفة الخبز الفرنسي Baguette ثم فتح الثلاجة واخرج قالبا من الزبدة وعدة علب من الزبادي، ثم التفت إلى الوراء حيث كانت عشرات من علب الحليب المركز Gloria مرصوصة بانتظام فجلب بعضا منها، كل ذلك دون أن ينطق بحرف
استمر في تصرفاته الآلية فأخرج صندوق الشاي الخشبي من نوع 8147 وكان مفتوحا، ثم وضع بجانبه علبة كيلوغرام من طوابع سكر الشاي (البكْ) وبعدها انفرجت شفاهه قائلا : خذ ما تريد
نظرت إليه غير مصدف، لكن ملامحه لم تكن توحي بالسخرية أو الهزل، قلت له بصوت متهدج هل أنت جاد ؟ قال: وهل أعرفك حتى أمزح معك، خذ ما تريد ولا تعطلني فلدي ما أقوم به
قلت له أريد نصف كيلو من السكر، ونصف كأس من الشاي، وعلبة من الحليب وأخرى من اللبن وخبزة وعشر أواق من الزبدة وحزمة نعناع، قال بحزم: فقط ؟ قلت فقط
سلمني المطلوب وخرجت من الدكان متيقنا أن يده ستمتد في أي لحظة إلى تلابيبي وينتزع مني ما أعطاني، لكنه وبقدرة قادر لم يفعل.