إعلان

حنة آرندت في ذكراها الخمسين

اثنين, 11/10/2025 - 06:01

د. السيد ولد أباه

 

 

 

في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاماً (نوفمبر 1975)، رحلت الفيلسوفة الألمانية المهاجرة إلى الولايات المتحدة حنة آرندت، وقد تركت أثراً مكيناً في الفكر السياسي العالمي.
ومع أن حنة آرندت تلقّت أساسَ تعليمها الفلسفي على يد أستاذها الأسطوري مارتن هايدغر في ألمانيا، إلا أنها اختلفت جذرياً في أعمالها النظرية عن طريقته في التفكير الفلسفي. كانت آرندت مشغولةً في الأساس بالسياسة أو بالنشاط العملي الذي اعتبرته موضوعاً غائباً في تاريخ الفلسفة المتمحور حول التأمل، والمهووس منذ أفلاطون إلى هايدغر بموضوع الموت. لقد رأت أن موضوع «الولادة» (natalis باللاتينية) هو المدخل الصحيح للنشاط العملي من حيث هو مادة الفعل السياسي، وتعني هذه العبارة بالنسبة لها قدرةَ البشر الدائمة على البدء في إنجاز أمور جديدة، بما يفسّر كون الوضع الإنساني غير قابل للتحديد والقولبة مسبقاً. وما دامت السياسة، حسب تعريف آرندت، هي «مجال الفعل الحر والبداية الجديدة»، فإن الولادةَ هي التي تمنح السياسةَ عمقَها الرمزي من حيث هي إبداعٌ متواصلٌ وقدرةٌ متجددةٌ على الحركة والنشاط وأملٌ دائمٌ بالتغيير ومبدأٌ لمقاومة الاستبداد والجمود.
في كتابها الأساسي «وضعية الإنسان»، تميز آرندت بين ثلاثة مستويات كبرى في الحياة العملية:
الشغل (labor) الذي هو وظيفة بيولوجية ضرورية لاستمرار الإنسان، والعمل (work) الذي يحيل إلى اختراع الأشياء بشكل دائم، والفعل (action) الذي هو مجال التعددية والحرية، أي التفاعل الحي بين الأفراد الأحرار المتساوين في الدائرة العمومية. والفعل بالنسبة لـ «آرندت» هو أعلى هذه الأنشطة مستوىً، وهو يختلف عن التقنية والعمل اليدوي والفني بكونه ينتج المعنى ويفسح الطريقَ للتداول اللغوي والبرهاني الحر.
 لقد لاحظت حنة آرندت أن الحداثةَ ألغت الفعلَ واستبدلته بالشغل والاستهلاك وعوّضت السياسةَ بالتسيير والاقتصاد، واختزلت الإنسانَ في الحيوان الكادح الذي تتركّز إرادته في تحقيق مصالحه البيولوجية الضرورية. وفي هذا الباب، تتحدث آرندت عن «ضياع العالم المشترك» في المجتمعات الحديثة، باعتبار أن البشر لم يعودوا يعيشون في عالم يشتركون فيه، وأصبحت حقوقهم وتطلعاتهم محصورةً في الدوائر الخاصة التي هي عالم التقانة والأشياء المصنوعة.
لقد عُرفت حنة آرندت بأعمالها الرائدة حول ظاهرة «التوتاليتارية» التي نشأت عن تفكك العالَم المشترك، بحيث أصبح الأفراد معزولين ومعرَّضين لتكييف الوعي وضبط الضمير. ليست التوتاليتارية امتداداً لحالة الاستبداد السياسي القديمة، بل هي وضعية غير مسبوقة في التاريخ، تتميز بنظام الهيمنة على البشر، أي السيطرة الكلية عليهم، ليس فقط عن طريق القمع والتنكيل، وإنما أيضاً من خلال التحكم النفسي والأخلاقي والروحي.
 في كتابها «أصول التوتاليتارية» تقف حنة آرندت عند ظاهرتين أساسيتين تدخلان في هذا المفهوم، هما النازية والستالينية، وهما على اختلافهما تتفقان في نظام الهيمنة والسيطرة المسلَّط على الوعي والشعور من خلال التعبئة الأيديولوجية والقولبة الإدراكية والمعرفية.
لقد خصصت حنة آرندت دراساتٍ كثيفةً لتجارب الثورات الحديثة التي هي مستجدات خاصة بالعصور الأخيرة، من خلال المقارنة بين الثورات الفرنسية والأميركية والسوفييتية.
وبالنسبة لحنة آرندت، فقد نجحت الثورة الأميركية في تأسيس نظام سياسي ناجع قائم على التداول العمومي والمواطَنة الفاعلة في سياق تجسيد مثال الحرية في أبعادها الذاتية والحقوقية، بينما فشلت الثورة الفرنسية في تحقيق هذه النتيجة لكونها اتجهت مبكراً نحو المسألة الاجتماعية وليس المطلب السياسي، فاتسمت بالعنف والراديكالية وأخفقت في بناء مؤسسات عمومية مستقرة ورصينة. أما في الاتحاد السوفييتي فانهار مثالُ الحرية جراء سيطرة الحزب الواحد والهيمنة الأيديولوجية على المجتمع، وسرعان ما تحولت الثورة السياسية إلى ثورة اجتماعية هادفة إلى القضاء على العلاقات الطبقية عن طريق القوة والعنف.
لم تُقْرأ حنة آرندت جيداً في الفكر العربي، وظل الاهتمام بها محصوراً في أعمالها حول تاريخ الفكر السياسي الغربي، التي لا يمكن فهمها واستيعابها إلا في نطاق مشروعها الفلسفي المتكامل. بعض الكتّاب قرؤوها من زاوية نقد الليبرالية والحداثة، رغم أن مشروعها يتمحور بالكامل حول الحرية والتداول ضمن عالم مشترك تعددي. وبعضهم اكتفى بنقدها الجذري للتجارب الاشتراكية، في حقبة سيطرتْ خلالها على الأيديولوجيا السياسية العربية أفكارُ الثورة الاجتماعية.
وهكذا ظلت أعمال حنة آرندت، وإلى حدٍّ بعيد، مجهولةً عربياً، رغم أهميتها الفائقة في الفلسفة المعاصرة. وقد كتب لها مرة أستاذها هايدغر الذي تعلقت به عاطفياً في شبابها: «لقد فتحتِ بابَ التفكير في ما تركتُه في الظل: العالَمُ المشترك بين البشر».

*أكاديمي موريتاني