أسئلة الزمن:
بَيْنَ سَنَةٍ وأخْرَى، تَتِمُّ دوْرَةً زمَنِيةً مُكْتَمِلَةً، حُبْلَى بالأحْداثِ، مَشْحُونَةً بِجَدَلِ الآمَالِ، والأعْمالِ، وتَنَازُعِ الأحْلامِ والآلامِ، مُسْفَرَةً عنْ حَصَادِ الأمَانِي والثَّوَانِي، مُتَرَاجِعَةً بيْنَ كَفَّتَيْ الغِنَاءِ والبُكَاءِ، مُتَذَبْذِبَةً -في طقْسِ العُمْرِ- بيْنَ المَدِّ والجَزْرِ...........
وفي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ بيْنَ" النَّهايةِ والبِدَايةِ"، بالنِّسْبَةِ للسَّنَتَيْنِ، يَجِدُ الإنْسَانُ نفْسَه مَصْلُوبًا في بَرْزَخٍ حَرِجٍ، بيْنَ مَاضٍ ولَّي- بدُونِ رَجْعَةٍ- بكُلِّ ما فِيهِ منْ خيْرٍ وشَرٍّ، بكُلِّ نَجَاحَاتِه وخيْباتِه، بكُلِّ أفْرَاحِهِ وأتْرَاحِه، وبيْنَ مُسْتَقْبَلٍ مَزْرُوعٍ أفُقُ انْتِظَارِهِ بكثيرٍ منَ المَشَاريعِ المُعَلَّقَةِ، والآمالِ المُتَرَبِّصَة، ضِمْنَ مُخَلَّفَاتِ الأمْسِ الدَّابِرِ، يَرْفعُ لائِحَتَها بِتَوَجُّسٍ فِي مُواجَهَةِ الغيْبِ المَجْهُولِ، والغَدِ الآتِي، وهو لا يَدْري أيْنَ تَنْتَهِي به مُجْرَياتِ السَّنَةِ القادِمَةِ...
إنَّها لَحْظَةٌ وُجُودِيةٌ مَأزُومَةٌ، تَتَطلَّبُ طرْحَ أسْئِلَةٍ حَادَّةٍ في صَمِيمِ الكَيْنُونَةِ، مُشَبَّعَةٍ بقَلَق المَصِيرِ، أكْثَرَ ممَّا تَقْتَضِي احْتِفالاتٍ وألعابًا بَهْلوانِيةً، لا سِيَّمَا بالنَّسْبَةِ للنَّاسِ الحَسَّاسِينَ الأكْثَرَ نُزُوعًا للتأمُّلِ الفَلْسَفِي، مع أنَّ بَعْضَ الرُّؤَى المُتَفائِلَةِ قد تُسَوِّغُ الاحْتِفالَ بما عاشَه الإنْسانُ منْ عُمرٍ، رغْمَ ما اكْتَنَفَه منْ أخْطاءٍ ونَوَاقِصَ، ويستبشر بالآتي، رغْمَ جهْلِه لمَا يَحْمِلُ منْ مَآلاتٍ، ولكُلٍّ من الفلْسَفتيْنِ مرتكزاتُه، النفسية، والفكرية.
إنَّ الحَيَاةَ-على كل حال- قِطارٌ، يندفعُ بِرُكَّابِه عبْرَ مَحَطَّاتٍ عديدة، باتجاهِ المَحَطَّةِ الأخِيرةِ، المَعْلومَةِ المَجْهُولَةِ، ويَتَجَلَّى مَدَى التَّطَابِقِ بَيْنَ الحَيَاةِ والقِطَارِ، فِي نِسْبِيَّةِ بِدَايَةَ الرحْلةِ ونِهَايَتَهَا ،حَسَبَ اخْتِلاَفِهما مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، فمَحَطَّةِ النَّهَايَةِ عِنْدَ هَذا قَدْ تَكُونُ البِدَايَة عِنْدَ ذلك، وإذا كانَ نِظامُ السِّكَكِ الحَديدية، يُعْلِنُ بأجْهِزَتِه الصَّوْتِيةِ، مَواقِيتَ الرِّحْلةِ، ومَوَاقِعَ المَحَطَّاتِ، تَنْبِيهاً للرُّكَّابِ، فإنَّ نِظامَ الحَيَاةِ يُطْلِقُ صَافِرَاتِ التنبيه، عنْدَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ ومُنْعَرَجٍ منْ رِحْلةِ العمر، ولكنَّ أغْلَبَ المُسَافِرينَ، لا يَلْتَقِطُونَ إيحاءاتِ المُنَبِّهَاتِ، ولا يُدْرِكُونَ سِوَى الضَّجِيجِ الحِسِّي الصَّاخِبِ المُزْعِجِ للغافِلينَ اللاَّهِينَ، أو حتى النائمينَ، والمُفْرِحِ بالنِّسْبَةِ للْواصِلينَ إلى المَحَطَّاتِ المُنْتَظَرَةِ المَرْغُوبَةِ، ولَعَلَّ أفْضَلَ مِنْ يَتَمَثَّلُ- مِنْ الرُّكَّابِ-عُمْقَ السَّيْرُورَةِ والصَّيْرُورَةِ في رِحْلَتَيْ القِطارِ والحَيَاةِ مَعًا ، هو الشَّاعِرُ، الذي يُجِيدُ الاسْتِغْرَاقَ في تَأمُّلِ المَشَاهِدِ مَهْمَا كانَتْ مُتَسَارِعَةَ اللَّقَطَاتِ، ويَتَمَيَّز بطَاقَةِ إحْسَاسٍ وتَمَثُّلٍ عَالِيةٍ، قَادِرَةٍ عَلَى اخْتِرَاقِ المَحْسُوسِ لاسْتِكْنَاهِ المَعْنَوِي، وإعَادَةِ تَرْكِيبَهما، وفْقَ رُؤْيَةٍ تدْمجُ المُتَفَرِّقاتٍ، ولَقَدْ عِشْتُ مِثْلَ هَذا الإحْسَاسِ، ذاتَ رِحْلَةٍ في القطار/ الحياة، فقلتُ:
يَمْضِي القِطارُ
كَمَا الحَياةُ – بِنَا!-
*****
هُنَا..
تَطّارَدُ الأشْجَارُ..
صَفّاً .. بعْدَ صَفٍّ..
حَوْلَنَا
*****
كَالذِّكْرَيَاتِ..
العَابِرَاتِ..
كَعُمْرِنَا
*****
وَيَفِرُّ بَعْضُ الأرْضِ..
مِنْ بَعْضٍ..
تُسَابِقُ رَكْضَنَا
*****
إثْرَ الطَّرِيقِ الهَارِبِ الآبِي انْتِظاراً..
كُلُّنَا.. حتَّى المَكَانُ..
مَعَ الزَّمَانِ..
مَعَ القِطَارِ..
مَعِي أَنَا!
*****
كالكَوْكَبِ المُنْقَضِّ..
- فِي المَهْوَاةِ- مُنْدَفِعِينَ
فِي هَذِي الدُّنَا..
خَلْفَ المُنَى..
يَا لَلدُّنَا!
*****
أنّى سَنَقْبِضُ مَا نُطارِدُ؟
أوْ نَفُوتُ يَدَ الذِي
- كَالظِّلّ- يَطْرُدُ ظِلَّنَا؟
*****
لا أنْتَ تَدْرِي
يا قِطَارُ..
ولا المَكانُ..
ولا الزًّمَانُ
ولا أنَا!