أدي ولد آدب يكتب: التبْراع: بصمة شعر المرأة الموريتانية

خميس, 05/03/2018 - 00:56

أدي ولد آدب

 

في إطارالجَدَل المُثار- عالمياً- حوْل الأدَب النسوي، أعْتقدُ أنَّ العالمَ العَرَبي-على الأقلِّ – لا يُوجَدُ فيه- حَسَبَ عِلْمِي المَحْدود- شِعْرٌ، يَخْتصُّ بالمرأة، مُتَمَيِّزًا بضوابطَ فنيةِ بنيويةِ، لا يُشاركُه فيها شِعْرُ الرَّجُل، إلا ظاهرة شِعْرِ” التبْراع”  الشَّعْبي الخاص بالمَرْأْةِ الموريتانية منذ ما قبْلَ الدولة الحديثة حتى الآن، والذي حَصَرَتُهُ – من حيث المضمون- في الغَزَلِ، وقَيَّدَتْهُ- من حيث اللغة-  باللهْجَة الحسانية، واجْتَرَحَتْ له- من حيث القالب الفني- بَيْتًا ثُنائي الشطْرَيْن، مُزْدَوِجَ المِصْراعيْن في القافية، مُخالفًا بذلك البنيةَ الرُّباعيةَ الأشطار في البَيْتِ من الشعْر الحَسَّاني الرِّجالي، الذي يُسَمَّى” القاف” المُشْتَقَّ- ربما – من “القافية” في الشِّعْر العَرَبي الفصيح، وهي تسمية يشترك فيها مع نظيره النبطي، في بعض مناطق الخليج العربي.

وقد عَلَّلْتُ – ذات مرة في التسعينات -اخْترالَ الشاعرةِ الموريتانية لبنيةِ” التبْريعَةِ” عندها، في نصْف “قاف”  الشاعر الشعبي الموريتاني، بأنه ربما يكونُ نابعًا من وعْيها- أوْلَا وعْيها- بقاعِدَةِ المَواريث في الإسلام: “للذَّكَر مِثْلُ حَظِّ الانْثَيَيْن”، على الرغم من أنَّ المَرْأةَ لَدَيْنا مُدَلَّلَةٌ في مجال الحقوق المالية، تأخذُ مالها وما للرَّجُل مَعًا بكُلِّ أرْيحيةٍ، كما تشارك الرجل شعره،،وتتفرد ب “تبْراعها”،، غيْرَ أنَّها في مجال البَوْح العاطفي تجاهَ الرَّجُل مَكْبُوتَةٌ بضغْطِ مُحافظة المُجْتمع البَدَوي التقليدي، التي لا تسْمَحُ لها بالتعبير حتى عن شعورها تجاه زوْجها المُعاشِر لها ،على سُنَّةِ الله ورسُوله.

ومن هنا ربما يَتَأتَّى اخْتزالُ الدَّفْقَةِ الشُّعُوريةِ لدَيْها في ذلك القالبِ المُخْتَصَرِ، باعتبارها لحْظةَ بوْحٍ مُخْتَطَفَةً ، تَنِدُّ – مُهَرَّبَةً- منْ ثُقوب الكَبْتِ الصارم، كُلَّمَا سَنَحَتْ لها فُرْصةٌ نادِرَةٌ من خَلَوَات الفَتَيات وجَلَواتها.

وإمْعانا في إخْفاء الذات المُبْدِعَةِ – تَفَلُّتًا من النكير والتشْهير- كانتْ  هذه الإبداعاتُ النسويةُ المُنْتَجَةُ بَعيدًا عن أعْيُنِ المُجْتَمَع وأسْماعه ،لا تُوَقَّعُ باسْم مُبْدِعَتِها، ولا يُذْكَرُ فيها المُتَغَزَّلُ به إلاَّ رَمْزًا، وقد يكونُ ذلك سَبَبَ تَمَيُّزِها أيْضًا – إلى جانب تلك المُواضَعات الخاصةِ – بمُصْطَلَحِ ” التبْريعة”، ربما لأنَّ الشاعرةَ غيْرَ المُعَيَّنَةِ، تَتَبَرَّعُ بها لرَجُلٍ يَسْتَحِقُّها غيْرَ مُعَيَّنٍ ، إلا في خاطِرها هي وحْدها ، أو الدائرة الضيقة جدا من صُويْحِباتِها، ومعَ ذلك كله يَبْقى المُسْتوى الفني والشُّحْنَةُ العاطفيةُ المُرَكَّزَةُ لهذه ” التبْريعة”ِ غيْرَ مُتأثِّرَيْنِ – سلبيا – بضيقِ القالب، لأنَّ زيادة القيود الفنيةِ – خلافا للمتوقع- ربما تكونُ حافزًا على الإبداع، أكْثَر مما هي عائقٌ دُونه، لاسيما عنْدَ المُبدِعينَ الحَقيقيين، ولذلك كانوا يَتَجَشَّمُونَ “لزومَ ما لا يَلْزَم”.

ولعل أروع مثال يحضرني الآن لهذا الشعر الموريتاني، المتمحِّض لـ”نون النسوة”، و”تاء التأنيث”، هو قول إحداهن ،في “تبْريعة” عجيبة:

ما فِيَّ حُفْرَهْ ** مِنْ حُبُّ تَرْفدْ مَ لَخْرَهْ

فهذه الحروف القليلة، الشبيهة – من حيث البنية المختزلة – بقصيدة ” الهايكو”، اليابانية، أو” شعر نساء البشتون”، أو” شعر الومضة” الجديد، لم تضق- رغم اختصارها- عن الاتساع لحُبٍّ عظيم ملأ وجْدانَ صاحبته، حتى فاض عنها، مُخترقا كُلَّ حواجز الكبْت والمحافظة الداخلية والخارجية، التي تُسَوِّرُ تجربةَ الحُبِّ لدى المرأة في مجتمعنا، مستفيدةً في تعبيرها من نظام الرّي الزراعي، والفيْض المَطَري، أو النهْري، أو البحْري، حيث تمتلئ الحُفرة الأولى، فتفيض إلى جاراتها، حتى إذا امتلأ الجميعُ، وغَمَرَهُ المَاءُ، لم تعدْ أيُّ حُفْرَةٍ تقْدِرُ على التنفيس عن أختها، وهذا –  بالضبط – ما حدَثَ لهذه الشاعرة، التي تَحَمَّلت الكبْتَ والصمْتَ، مادام في دَواخِلها مُتَّسَعٌ للتخْزين، حتى “بلغَ السَّيْلُ الزُّبَى”، فـ ” طَفَحَ الكيْلُ”.

المصدر: الصحيفة العمانيةالإلكترونية (أثير)